ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وما كان لنبيء أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة .
الأظهر أنه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض على الغرض . وموقعه عقب جملة إن ينصركم الله فلا غالب لكم . الآية ، لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذل بيده ، يستلزم التحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفا بمن يرضونه . وإذ قد كانت هذه النصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم ، نبهوا إلى شيء يستخف به الجيش في الغزوات ، وهو الغلول ليعلموا أن ذلك لا يرضي الله تعالى فيحذروه ويكونوا مما هو أدعى لغضب الله أشد حذرا فهذه مناسبة ويعضد ذلك أن سبب هزيمتهم يوم أحد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم . التحذير من الغلول : تعجل بأخذ شيء من غال الغنيمة . والغلول
ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسبا لتعقيب آية النصر بآية الغلول ، فإن غزوة أحد التي أتت السورة على قصتها لم يقع فيها غلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسرين من قضية غلول وقعت يوم بدر [ ص: 155 ] في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا ، لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أحد ، فضلا على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حنين الواقع بعد غزوة أحد بخمس سنين وقرأ جمهور العشرة : يغل بضم التحتية وفتح الغين وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم بفتح التحتية وضم الغين .
والفعل مشتق من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش ، والغلول مصدر غير قياسي ، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقا .
وصيغة صيغة جحود تفيد مبالغة النفي . وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النهي . والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النبيء عن أن يغلوا لأن الغلول في غنائم النبيء - صلى الله عليه وسلم - غلول للنبيء ، إذ قسمة الغنائم إليه . وأما على قراءة وما كان لنبيء أن يغل ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النبيء لا يغل أنه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغلول إلى النبيء مجاز لملابسة جيش النبيء نبيئهم ، ولك أن تجعله على تقدير مضاف ، والتقدير : ما كان لجيش نبيء أن يغل .
ولبعض المفسرين من المتقدمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سماجة .
ومعنى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة أنه يأتي به مشهرا مفضوحا بالسرقة .
ومن اللطائف ما في البيان والتبيين : أن للجاحظ مزيدا رجلا من الأعراب سرق نافجة مسك ، فقيل له : كيف تسرقها وقد قال الله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ؟ فقال : إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل . وهذا تمليح وتلقي المخاطب بغير ما يترقب . وقريب منه ما حكي عن ، - والدرك على من حكاه - ، قالوا : لما بعث إليه عبد الله بن مسعود عثمان ليسلم [ ص: 156 ] مصحفه ليحرقه بعد أن اتفق المسلمون على المصحف الذي كتب في عهد أبي بكر قال : إن الله قال ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة وإني غال مصحفي فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل . ولا أثق بصحة هذا الخبر لأن ابن مسعود يعلم أن هذا ليس من الغلول . ابن مسعود
وقوله ثم توفى كل نفس ما كسبت تنبيه على العقوبة بعد التفضيح ، إذ قد علم أن الكلام السابق مسوق مساق النهي ، وجيء بـ ( ثم ) للدلالة على طول مهلة التفضيح ، ومن جملة النفوس التي توفى ما كسبت نفس من يغلل ، فقد دخل في العموم .
وجملة وهم لا يظلمون حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها وهي توفى كل نفس ما كسبت .
والآية دلت على تحريم وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش ، وهو من الكبائر لأنه مثل السرقة ، وأصح ما في الغلول حديث الموطأ : الغلول خيبر قاصدا وادي القرى وكان له عبد أسود يدعى مدعما ، فبينما هو يحط رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه سهم عائر فقتله ، فقال الناس ، هنيئا له الجنة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رجع من
بالاجتهاد ، ولا قطع فيه باتفاق ، هذا قول الجمهور ، وقال ومن غل في المغنم يؤخذ منه ما غله ويؤدب ، الأوزاعي وإسحاق ، ، وجماعة : يحرق متاع الغال كله عدا سلاحه وسرجه ، ويرد ما غله إلى بيت المال ، واستدلوا بحديث رواه وأحمد بن حنبل صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي ، عن : عمر بن الخطاب وهو حديث ضعيف ، قال أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه الترمذي سألت محمدا - يعني - عنه فقال إنما رواه البخاري صالح بن محمد ، وهو منكر الحديث . على أنه لو صح لوجب تأويله لأن قواعد الشريعة تدل على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلق بالظواهر وليس من التفقه في شيء .