قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير .
أبدل الذين قالوا إن الله عهد من الذين قالوا إن الله فقير لذكر قولة أخرى شنيعة منهم ، وهي كذبهم على الله في أنه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان ، أي حتى يذبح قربانا فتأكله نار تنزل من السماء ، فتلك علامة القبول ، وقد كان هذا حصل في زمان موسى عليه السلام حين ذبح أول قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرب فأحرقته . كما في سفر اللاويين . إلا أنه معجزة لا تطرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأن . وفي الحديث معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمة فقال الله تعالى لنبيه ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم .
[ ص: 186 ] وهذا الضرب من الجدل مبني على التسليم ، أي إذا سلمنا ذلك فليس امتناعكم من اتباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنكم قد كذبتم الرسل الذين جاءوكم بها وقتلتموهم ، ولا يخفى أن التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شك أن بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم ، مثل زكريا ويحيى وأشعياء وأرمياء ، فالإيمان بهم أول الأمر يستلزم أنهم جاءوا بالقربان تأكله النار على قولهم ، وقتلهم آخرا يستلزم أن عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، فلا عجب أن يأتي خلفهم بمثل ما أتى به سلفهم .
وقوله إن كنتم صادقين ظاهر في أن ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب ومعاذير باطلة .
وإنما قال وبالذي قلتم عدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلا عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالى وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله ونرثه ما يقول أي نرث ماله وولده .
ثم سلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك والمذكور بعد الفاء دليل الجواب لأنه علته ، والتقدير : فإن كذبوك فلا عجب أو فلا تحزن لأن هذه سنة قديمة في الأمم مع الرسل مثلك ، وليس ذلك لنقص فيما جئت به . و " البينات " : الدلائل على الصدق ، والزبر جمع زبور وهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول ، أي مزبور بمعنى مخطوط . وقد قيل : إنه مأخوذ من زبر إذا زجر أو حبس لأن الكتاب يقصد للحكم . وأريد بالزبر كتب الأنبياء والرسل ، مما يتضمن مواعظ وتذكيرا مثل كتاب داود والإنجيل .
والمراد بالكتاب المنير : إن كان التعريف للجنس فهو كتب الشرائع مثل التوراة والإنجيل ، وإن كان للعهد فهو التوراة ، ووصفه بالمنير مجاز بمعنى المبين للحق كقوله إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور والعطف منظور فيه إلى التوزيع ، فبعض الرسل جاء بالزبر ، وبعضهم بالكتاب المنير ، وكلهم جاء بالبينات .
[ ص: 187 ] وقرأ الجمهور " والزبر " بعطف الزبر بدون إعادة باء الجر .
وقرأه ابن عامر : وبالزبر - بإعادة باء الجر بعد واو العطف وكذلك هو مرسوم في المصحف الشامي .
وقرأ الجمهور : والكتاب - بدون إعادة باء الجر - وقرأه هشام عن ابن عامر وبالكتاب بإعادة باء الجر وهذا انفرد به هشام ، وقد قيل : إنه كتب كذلك في بعض مصاحف الشام العتيقة ، وليست في المصحف الإمام . ويوشك أن تكون هذه الرواية لهشام عن ابن عامر شاذة في هذه الآية ، وأن المصاحف التي كتبت بإثبات الباء في قوله " وبالكتاب " كانت مملاة من حفاظ هذه الرواية الشاذة .