موعظة لكل من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة ، في شأن أموال اليتامى وأموال الضعاف من النساء والصبيان ، فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه ، ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذريتهم بأن ينزلوا أنفسهم منزلة الموروثين ، الذين اعتدوا هم على أموالهم ، وينزلوا ذرياتهم منزلة الذرية الذين أكلوا هم حقوقهم ، وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أن المعتدى عليهم خلق ضعاف بقوله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ضعافا ، ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو ، بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا . فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأن نصيب أبنائهم مثل ما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أن مفعول حفظ أموال اليتامى يخش حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب محتمل ، فينظر كل سامع بحسب الأهم عنده مما يخشاه أن يصيب ذريته .
وجملة لو تركوا إلى خافوا عليهم صلة الموصول ، وجملة خافوا عليهم جواب لو .
وجيء بالموصول لأن الصلة لما كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله ، وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كل سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له ، إذ هي أمر يتصوره كل الناس .
ووجه اختيار لو هنا من بين أدوات الشرط أنها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرض لإمكانه ، فيصدق معها الشرط المتعذر الوقوع والمستبعده [ ص: 253 ] والممكنه : فالذين بلغوا اليأس من الولادة ، ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم ، يدخلون في فرض هذا الشرط لأنهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم ، والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر .
وفعل تركوا ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول ، كقوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم وقوله تعالى لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم وقول الشاعر :
إلى ملك كاد الجبال لفقده تزول زوال الراسيات من الصخر
أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت . فالمعنى : لو شارفوا أن يتركوا ذرية ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء .والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة : من الأوصياء ، ومن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهم ، ويحرمون صغار إخوتهم أو أبناء إخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم ، كل أولئك داخل في الأمر بالخشية ، والتخويف بالموعظة ، ولا يتعلق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله فارزقوهم منه لأن تلك الجملة وقعت كالاستطراد ، ولأنه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف .
وفي الآية ما يبعث الناس كلهم على أن يغضبوا للحق من الظلم ، وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء ، وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء إليهم ، لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك ، وأن يأكل قويهم ضعيفهم ، فإن اعتياد السوء ينسي الناس شناعته ، ويكسب النفوس ضراوة على عمله . وتقدم تفسير الذرية عند قوله تعالى ذرية بعضها من بعض في سورة آل عمران .
وقوله فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا فرع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين : لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه ، والمعنى : فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول .