[ ص: 295 ] ويمدهم في طغيانهم يعمهون
يتعين أنه معطوف على الله يستهزئ بهم ويمد فعل مشتق من المدد وهو الزيادة ، يقال مده إذا زاده وهو الأصل في الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد ، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي ، وقد يقولون : ( أمده ) بهمزة التعدية على تقدير : جعله ذا مدد ثم غلب استعمال مد في الزيادة في ذات المفعول نحو مد له في عمره ، ومد الأرض أي مططها وأطالها ، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش أمدكم بأنعام وبنين وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل : لا فرق بينهما في الاستعمال ، وقيل : يختص أمد المهموز بالخير نحو أتمدونني بمال أنما نمدهم به من مال ، ويختص مد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب الحجة ، ونقله ابن عطية عن ، إلا المعدى باللام فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهال فيه عند يونس بن حبيب وغيره - خلافا لبعض اللغويين - فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجل بسكون الجيم عن التفرقة بالهمز رجوعا للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية - وهو الهمزة - وبين ما يقتضي القصور - وهو لام الجر - وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين ، وهي طريقة لهم في كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية أن يخصوا بعض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جريا وراء التنصيص في الكلام ودفع اللبس بقدر الإمكان . الزمخشري
وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية ، فلا يقال : إن دعوى اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف الأصل كما أورد عبد الحكيم ; لأن ذلك التخصيص - كما علمت - اصطلاح في الاستعمال لا تعدد وضع ولا استعمال في غير المعنى الموضوع له ، ونظير ذلك قولهم : فرق وفرق ، ووعد وأوعد ، ونشد وأنشد ، ونزل المضاعف وأنزل ، وقولهم : العثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة ، والعثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع ، وقد فرقت العرب في مصادر الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود .
[ ص: 296 ] وتعدية فعل ( يمد ) إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق - مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان - جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال ، وجعل الزجاج والواحدي أصله : ويمد لهم في طغيانهم ، فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور على طريقة نزع الخافض وليس بذلك .
والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران ، وهو مبالغة في الطغي وهو الإفراط في الشر والكبر ، وتعليق فعل يمدهم هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله في طغيانهم ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم ، فيكون نحو بعض ما فسر به قوله الله يستهزئ بهم وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بعد . والعمه انطماس البصيرة وتحير الرأي ، وفعله عمه فهو عامه وأعمه .
وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله " ويمدهم " إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها . ، كان من آثاره أن لا ينقطع عنها ، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكوينها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلا من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة ، وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ، ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم ، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضيا استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ ، فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده ، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى ؛ لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو : بنى الأمير المدينة ، لاسيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال ، وهذا بخلاف نحو يزيدك وجهه حسنا وسرتني رؤيتك ; لأن ذلك - وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى - إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف ، فلذلك قال الشيخ فالنفاق إذا دخل القلوب عبد القاهر : إنه من المجاز الذي لا حقيقة له .
[ ص: 297 ] وإنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل : في الطغيان ، بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف وإخوانهم يمدونهم في الغي إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وأنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم .
والظرف متعلق بـ ( يمدهم ) . و ( يعمهون ) جملة حالية .