استطراد جر إليه قوله : فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما . والتوبة تقدم الكلام عليها مستوفى في قوله ، في سورة آل عمران إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم .
و ( إنما ) للحصر .
و ( على ) هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهد والتحقق كقولك : علي لك كذا ، فهي تفيد تحقق التعهد . والمعنى : التوبة تحق على الله ، وهذا مجاز في تأكيد [ ص: 278 ] الوعد بقبولها حتى جعلت كالحق على الله ، . قال ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله ابن عطية : إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وجوبا .
وقد تسلط الحصر على الخبر ، وهو ( للذين يعملون ) وذكر له قيدان وهما ( بجهالة ) و ( من قريب ) والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون روية ، وهي ما قابل الحلم ، ولذلك تطلق الجهالة على الظلم . قال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال تعالى ، حكاية عن يوسف وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين . والمراد هنا ظلم النفس ، وذكر هذا القيد هنا لمجرد تشويه عمل السوء ، فالباء للملابسة ، إذ لا يكون عمل السوء إلا كذلك . وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجهل ، وهو انتفاء العلم بما فعله ، لأن ذلك لا يسمى جهالة . وإنما هو من معاني لفظ الجهل ، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنها معصية لم يكن آثما ولا يجب عليه إلا أن يتعلم ذلك ويتجنبه .وقوله : من قريب من فيه للابتداء و ( قريب ) صفة لمحذوف ، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء .
وتأول بعضهم معنى ( من قريب ) بأن القريب هو ما قبل الاحتضار ، وجعلوا قوله بعده حتى إذا حضر أحدهم الموت يبين المراد من معنى ( قريب ) .
اختلف المفسرون من السلف ومن بعدهم في إعمال مفهوم القيدين بجهالة - من قريب حتى قيل إن حكم الآية منسوخ بآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، والأكثر على أن قيد بجهالة وصف كاشف لعمل السوء ؛ لأن المراد عمل السوء مع الإيمان . فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فرأوا أن كل عمل عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيره .
[ ص: 279 ] والذي يظهر أنهما قيدان ذكرا للتنبيه على أن شأن المسلم أن يكون عمله جاريا على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة ، وأن قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات إلى وهم كفار قسيم لمضمون قوله : إنما التوبة على الله إلخ ، ولا واسطة بين هذين القسمين .
وقد اختلف علماء الكلام في فيها لتفرع أقوالهم فيها على أقوالهم في مسألة وجوب الصلاح والأصلح لله تعالى ووجوب العدل . فأما قبول التوبة ; هل هو قطعي أو ظني المعتزلة فقالوا : التوبة الصادقة مقبولة قطعا بدليل العقل ، وأحسب أن ذلك ينحون به إلى أن التائب قد أصلح حاله ، ورغب في اللحاق بأهل الخير ، فلو لم يقبل الله منه ذلك لكان إبقاء له في الضلال والعذاب ، وهو منزه عنه تعالى على أصولهم ، وهذا إن أرادوه كان سفسطة لأن النظر هنا في العفو عن عقاب استحقه التائب من قبل توبته لا في ما سيأتي به بعد التوبة .
أما علماء السنة فافترقوا فرقتين : فذهب جماعة إلى أن مقطوع به لأدلة سمعية ، هي وإن كانت ظواهر ، غير أن كثرتها أفادت القطع كإفادة المتواتر القطع مع أن كل خبر من آحاد المخبرين به لا يفيد إلا الظن ، فاجتماعها هو الذي فاد القطع ، وفي تشبيه ذلك بالتواتر نظر ، وإلى هذا ذهب قبول التوبة الأشعري ، والغزالي ، والرازي ، وابن عطية ، وولده أبو بكر بن عطية ، وذهب جماعة إلى أن القبول ظني لا قطعي ، وهو قول أبي بكر الباقلاني ، ، وإمام الحرمين والمازري والتفتزاني ، وشرف الدين الفهري وابن الفرس في أحكام القرآن بناء على أن كثرة الظواهر لا تفيد اليقين . وهذا الذي ينبغي اعتماده نظرا . غير أن قبول التوبة ليس من مسائل أصول الدين فلماذا نطلب في إثباته الدليل القطعي .
والذي أراه أنهم لما ذكروا القبول ذكروه على إجماله ، فكان اختلافهم اختلافا في حالة ، فالقبول يطلق ويراد به معنى رضا الله عن التائب ، وإثباته في زمرة المتقين الصالحين ، وكأن هذا هو الذي نظر إليه المعتزلة لما قالوا بأن قبولها قطعي عقلا . وفي كونه قطعيا نظر واضح ، ويدل لذلك أنهم قالوا : إن [ ص: 280 ] لا تصح إلا بعد الإقلاع عن سائر الذنوب ليتحقق معنى صلاحه . ويطلق القبول ويراد ما وعد الله به من غفران الذنوب الماضية قبل التوبة ، وهذا أحسبهم لا يختلفون في كونه سمعيا لا عقليا ، إذ العقل لا يقتضي الصفح عن الذنوب الفارطة عند الإقلاع عن إتيان أمثالها في المستقبل ، وهذا هو المختلف في كونه قطعيا أو ظنيا ، ويطلق القبول على معنى قبول التوبة من حيث إنها في ذاتها عمل مأمور به كل مذنب ، أي بمعنى أنها إبطال الإصرار على الذنوب التي كان مصرا على إتيانها ، فإن إبطال الإصرار مأمور به لأنه من ذنوب القلب فيجب تطهير القلب منه ، فالتائب من هذه الجهة يعتبر ممتثلا لأمر شرعي ، فالقبول بهذا المعنى قطعي لأنه صار بمعنى الإجزاء . ونحن نقطع بأن من أتى عملا مأمورا به بشروطه الشرعية كان عملا مقبولا بمعنى ارتفاع آثار النهي عنه ، ولكن بمعنى الظن في حصول الثواب على ذلك . ولعل هذا المعنى هو الذي نظر إليه التوبة إذ قال في كتاب التوبة إنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة هي مقبولة ؛ إذ القلب خلق سليما في الأصل ، إذ كل مولود يولد على الفطرة وإنما تفوته السلامة بكدرة ترهقه من غبرة الذنوب ، وأن نور الندم يمحو عن القلب تلك الظلمة كما يمحو الماء والصابون عن الثوب الوسخ . فمن توهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن توهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول ، أو أن الثوب يغسل والوسخ لا يزول ، نعم قد يقول التائب باللسان : تبت . ولا يقلع . فذلك كقول القصار بلسانه : غسلت الثوب . وهو لم يغسله ، فذلك لا ينظف الثوب . وهذا الكلام تقريب إقناعي . وفي كلامه نظر بين لأنا إنما نبحث عن طرح عقوبة ثابتة هل حدثان التوبة يمحوها . الغزالي
والإشارة في المسند إليه في قوله : فأولئك يتوب الله عليهم للتنبيه على استحضارهم باعتبار الأوصاف المتقدمة البالغة غاية الخوف من الله تعالى والمبادرة إلى طلب مرضاته ، ليعرف أنهم أحرياء بمدلول المسند الوارد بعد الإشارة ، نظير قوله تعالى : أولئك على هدى من ربهم والمعنى : هؤلاء هم الذين جعلهم الله مستحقين قبول التوبة منهم ، وهو تأكيد لقوله : إنما التوبة على الله إلى آخره .
وقوله : وليست التوبة إلخ تنبيه على نفي القبول عن نوع من التوبة وهي التي [ ص: 281 ] تكون عند اليأس من الحياة لأن المقصد من العزم ترتب آثاره عليه وصلاح الحال في هذه الدار بالاستقامة الشرعية ، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة .
وقوله : ولا الذين يموتون وهم كفار وعطف ( الكفار ) على العصاة في شرط قبول التوبة منهم لأن إيمان الكافر توبة من كفره ، والإيمان أشرف أنواع التوبة ، فبين أن . الكافر إذا مات لا تقبل توبته من الكفر
وللعلماء في تأويله قولان : أحدهما الأخذ بظاهره وهو أن لا يحول بين الكافر وبين قبول توبته من الكفر بالإيمان إلا حصول الموت ، وتأولوا معنى وليست التوبة له بأن المراد بها ندمه يوم القيامة إذا مات كافرا ، ويؤخذ منه أنه إذا آمن قبل أن يموت قبل إيمانه ، وهو الظاهر ، فقد ثبت في الصحيح : أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبيء - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل ، وعبد الله ابن أبي أمية فقال : أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله . فقال أبو جهل وعبد الله : أترغب عن ملة عبد المطلب . فكان آخر ما قال أبو طالب أنه على ملة عبد المطلب ، فقال النبيء : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك . فنزلت ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ويؤذن به عطف ( أن ولا الذين يموتون وهم كفار ) بالمغايرة بين قوله : ( حتى إذا حضر أحدهم الموت ) الآية ، وقوله : ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) وعليه فوجه أن الإيمان عمل قلبي ، ونطق لساني ، وقد حصل من الكافر التائب وهو حي ، فدخل في جماعة المسلمين وتقوى به جانبهم وفشت بإيمانه سمعة الإسلام بين أهل الكفر . مخالفة توبته لتوبة المؤمن العاصي
ثانيهما : أن الكافر ، والعاصي من المؤمنين سواء في عدم قبول التوبة مما هما عليه ، إذا حضرهما الموت . وتأولوا قوله : ( يموتون وهم كفار ) بأن معناه يشرفون على الموت على أسلوب قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا . أي لو أشرفوا على أن يتركوا ذرية . والداعي إلى التأويل نظم الكلام لأن ( لا ) عاطفة على معمول لخبر التوبة المنفية ، فيصير المعنى : وليست التوبة للذين يموتون وهم كفار [ ص: 282 ] فيتوبون ، ولا تعقل توبة بعد الموت فتعين تأويل ( يموتون ) بمعنى يشرفون كقوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم . واحتجوا بقوله تعالى في حق فرعون حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين المفيد أن الله لم يقبل إيمانه ساعتئذ . وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأن شأن الله في الذين نزل بهم العذاب أنه لا ينفعهم الإيمان بعد نزول العذاب إلا قوم يونس قال تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين فالغرق عذاب عذب الله به فرعون وجنده .
قال ابن الفرس ، في أحكام القرآن : وإذا صحت توبة العبد فإن كانت عن الكفر قطعنا بقبولها ، وإن كانت عن سواه من المعاصي ; فمن العلماء من يقطع بقبولها ، ومنهم من لم يقطع ويظنه ظنا . اهـ .