رتبت الفاء عدم الربح المعطوف بها وعدم الاهتداء المعطوف عليه على اشتراء الضلالة بالهدى لأن كليهما ناشئ عن الاشتراء المذكور في الوجود والظهور; لأنهم لما اشتروا الضلالة بالهدى فقد اشتروا ما لا ينفع وبذلوا ما ينفع فلا جرم أن يكونوا خاسرين وأن يتحقق أنهم لم يكونوا مهتدين ، فعدم الاهتداء وإن كان سابقا على اشتراء الضلالة بالهدى أو هو عينه أو هو سببه إلا أنه لكونه عدما فظهوره للناس في الوجود لا يكون إلا عند حصول أثره وهو ذلك الاشتراء ، فإذا ظهر أثره تبين للناس المؤثر ؛ فلذلك صح ترتيبه بفاء الترتيب فأشبه العلة الغائية ، ولهذا عبر بـ ( ما كانوا مهتدين ) دون ما اهتدوا لأن " ما كانوا " أبلغ في النفي لإشعاره بأن انتفاء الاهتداء عنهم أمر متأصل سابق قديم ، لأن كان تدل على اتصاف اسمها بخبرها منذ المضي فكان نفي الكون في الزمن الماضي أنسب بهذا التفريع .
والربح هو نجاح التجارة ومصادفة الرغبة في السلع بأكثر من الأثمان التي اشتراها بها التاجر ويطلق الربح على المال الحاصل للتاجر زائدا على رأس ماله .
والتجارة بكسر أوله على وزن فعالة وهي زنة الصنائع ومعنى التجارة التصدي لاشتراء الأشياء لقصد بيعها بثمن [ ص: 300 ] أوفر مما اشترى به ليكتسب من ذلك الوفر ما ينفقه أو يتأثله . ولما كان ذلك لا ينجح إلا بالمثابرة والتجديد صيغ له وزن الصنائع ، ونفي الربح في الآية تشبيه لحال المنافقين - إذ قصدوا من النفاق غاية فأخفقت مساعيهم وضاعت مقاصدهم - بحال التجار الذين لم يحصلوا من تجارتهم على ربح ، فلا التفات إلى رأس مال في التجارة حتى يقال إنهم إذا لم يربحوا فقد بقي لهم نفع رأس المال ، ويجاب بأن نفي الربح يستلزم ضياع رأس المال لأنه يتلف في النفقة من القوت والكسوة لأن هذا كله غير منظور إليه ؛ إذ الاستعارة تعتمد على ما يقصد من وجه الشبه فلا تلزم المشابهة في الأمور كلها كما هو مقرر في فن البيان .
وإنما أسند الربح إلى التجارة حتى نفي عنها ، لأن الربح لما كان مسببا عن التجارة وكان الرابح هو التاجر صح إسناده للتجارة لأنها سببه فهو مجاز عقلي ، وذلك أنه لولا الإسناد المجازي لما صح أن ينفى عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب الإخبار بالمعلوم ضرورة ، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه ، إن انتفاء الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير
ونمت وما ليل المطي بنائم
بخلاف قولك ما ليله بطويل ، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى الخسر ، ووصفها بالربح مجاز ، وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفي لو كان مثبتا فإن وجدت إثباته مجازا عقليا فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفى إلا ما يصح أن يثبت .وهذه هي الطريقة التي انفصل عليها المحقق التفتزاني في المطول ، وعدل عنها في حواشي الكشاف وهي أمثل مما عدل إليه .
وقد أفاد قوله فما ربحت تجارتهم ترشيحا للاستعارة في " اشتروا " ، فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفي المجاز بما يناسبه سواء كان ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز - كما تقول : له يد طولى أو : هو أسد دامي البراثن - أم كان الترشيح متميزا به أو مستعارا لمعنى آخر هو من ملائمات المجاز الأول ، سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة ، كما في هذه الآية ، فإن نفي الربح ترشح به " اشتروا " .
ومثله قول الشاعر - أنشده - كما في أساس البلاغة ابن الأعرابي ولم يعزه : للزمخشري
[ ص: 301 ]
ولما رأيت النسر عز ابن داية وعشش في وكريه جاش له صدري
وما أم الردين وإن أدلت بعالمة بأخلاق الكرام
إذا الشيطان قصع في قفاها تنفقناه بالحبل التؤام
ومعنى نفي الاهتداء كناية عن إضاعة القصد ، أي أنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير الآخر ولا ما يضر المسلمين . وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة ، فشبه سوء تصرفهم - حتى في كفرهم بسوء تصرف من يريد الربح ، فيقع في الخسران . فقوله وما كانوا مهتدين تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الخسران وإضاعة كل شيء لأن من لم يكن مهتديا أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه .