تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدمة من أول السورة إلى هنا ، فإنها أحكام جمة وأوامر ونواه تفضي إلى خلع عوائد ألفوها ، وصرفهم عن شهوات استباحوها ، كما أشار إليه قوله بعد هذا ويريد الذين يتبعون الشهوات ، أي الاسترسال على ما كانوا عليه في الجاهلية ، فأعقب ذلك ببيان أن في ذلك بيانا وهدى حتى لا تكون شريعة هذه الأمة دون شرائع الأمم التي قبلها ، بل تفوقها في انتظام أحوالها ، فكان هذا كالاعتذار على ما ذكر من المحرمات . فقوله : يريد الله ليبين لكم تعليل لتفصيل الأحكام في مواقع الشبهات كي لا يضلوا كما ضل من قبلهم ، ففيه أن هذه الشريعة أهدى مما قبلها .
وقوله : ويهديكم سنن الذين من قبلكم بيان لقصد إلحاق هذه الأمة بمزايا الأمم التي قبلها .
[ ص: 19 ] والإرادة : القصد والعزم على العمل ، وتطلق على الصفة الإلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه . والامتنان بما شرعه الله للمسلمين من توضيح الأحكام قد حصلت إرادته فيما مضى ، وإنما عبر بصيغة المضارع هنا للدلالة على تجدد البيان واستمراره ، فإن هذه التشريعات دائمة مستمرة تكون بيانا للمخاطبين ولمن جاء بعدهم ، وللدلالة على أن الله يبقي بعدها بيانا متعاقبا .
وقوله : يريد الله ليبين لكم انتصب فعل " يبين " بـ ( أن ) المصدرية محذوفة ، والمصدر المنسبك مفعول " يريد " ، أي يريد الله البيان لكم والهدى والتوبة ، فكان أصل الاستعمال ذكر ( أن ) المصدرية ، ولذلك فاللام هنا لتوكيد معنى الفعل الذي قبلها ، وقد شاعت زيادة هذه اللام بعد مادة الإرادة وبعد مادة الأمر معاقبة لـ ( أن ) المصدرية . تقول ، أريد أن تفعل وأريد لتفعل ، وقال تعالى : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وقال : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم وقال : وأمرت أن أسلم لرب العالمين وقال : وأمرت لأعدل بينكم فإذا جاءوا باللام أشبهت لام التعليل فقدروا ( أن ) بعد اللام المؤكدة كما قدروها بعد لام " كي " لأنها أشبهتها في الصورة ، ولذلك قال الفراء : اللام نائبة عن ( أن ) المصدرية . وإلى هذه الطريقة مال صاحب الكشاف .
قال : هي لام التعليل أي لام ( كي ) وأن ما بعدها علة ، ومفعول الفعل الذي قبلها محذوف يقدر بالقرينة ، أي يريد الله التحليل والتحريم ليبين ، ومنهم من قرر قول سيبويه بأن المفعول المحذوف دل عليه التعليل المذكور فيقدر : يريد الله البيان ليبين ، فيكون الكلام مبالغة بجعل العلة نفس المعلل . سيبويه
وقال الخليل ، في رواية عنه : اللام ظرف مستقر هو خبر عن الفعل السابق ، وذلك الفعل مقدر بالمصدر دون سابك على حد ( تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ) أي إرادة الله كائنة للبيان ، ولعل الكلام عندهم محمول على المبالغة كأن إرادة الله انحصرت في ذلك . وقالت طائفة قليلة : هذه اللام للتقوية على خلاف الأصل ، لأن لام التقوية إنما يجاء بها إذا ضعف العامل بالفرعية أو بالتأخر . وأحسن الوجوه قول وسيبويه ، بدليل دخول اللام على ( كي ) في قول سيبويه : قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي
أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود
[ ص: 20 ] وعن النحاس أن بعض القراء سمى هذه اللام لام ( أن ) .ومعنى : ويهديكم سنن الذين من قبلكم . الهداية إلى أصول ما صلح به حال الأمم التي سبقتنا ، من كليات الشرائع ومقاصدها . قال الفخر : فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها ، إلا أنها متفقة في باب المصالح . قلت : فهو كقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا . الآية .
وقوله : ويتوب عليكم أي يتقبل توبتكم إذ آمنتم ونبذتم ما كان عليه أهل الشرك من نكاح أزواج الآباء ، ونكاح أمهات نسائكم ، ونكاح الربائب ، والجمع بين الأختين .
ومعنى ويتوب عليكم يقبل توبتكم الكاملة باتباع الإسلام ، فلا تنقضوا ذلك بارتكاب الحرام . وليس معنى ويتوب عليكم يوفقكم للتوبة ، فيشكل بأن مراد الله لا يتخلف ، إذ ليس التوفيق للتوبة بمطرد في جميع الناس . فالآية بطريق الكناية لأن الوعد بقبولها يستلزم التحريض عليها مثل ما في الحديث : تحريض على التوبة هذا هو الوجه في تفسيرها ، وللفخر وغيره هنا تكلفات لا داعي إليها . فيقول : هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له
وقوله : والله عليم حكيم مناسب للبيان والهداية والترغيب في التوبة بطريق الوعد بقبولها ، فإن كل ذلك أثر العلم والحكمة في إرشاد الأمة وتقريبها إلى الرشد .