أعيد التعجيب من اليهود ، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، بما هو أعجب من حالهم التي مر ذكرها في قوله : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ; فإن إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة ، لأن أول قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي : لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ، لا تسجد لهن ولا تعبدهن . وتقدم بيان تركيب ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب آنفا في سورة آل عمران .
والجبت : كلمة معربة من الحبشية ، أي الشيطان والسحر ; لأن مادة : ج ب ت مهملة في العربية ، فتعين أن تكون هذه الكلمة دخيلة . وقيل : أصلها جبس : وهو ما لا خير فيه ، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم :
يا لعن الله بني السعلات عمرو بن يربوع شرار النات ليسوا أعفاء ولا أكيات
[ ص: 86 ] : الأصنام . كذا فسره الجمهور هنا ونقل عن والطاغوت . وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال للصنم طاغوت وللأصنام طاغوت ، فهو نظير طفل وفلك . ولعل التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب . ثم لما شاع ذلك طردوه حتى في حالة تجرده عن اللام ، قال تعالى : مالك بن أنس يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به فأفرده ، وقال : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ، وقال : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم إلخ . وهذا الاسم مشتق من طغى يطغو : إذا تعاظم وترفع ، وأصله مصدر بوزن فعلوت للمبالغة ، مثل : رهبوت ، وملكوت ، ورحموت ، وجبروت ، فأصله طغووت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فلعوت ، والقصد من هذا القلب تأتي إبدال الواو ألفا بتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتى الإبدال كما قلبوا أرءام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفا بعد الأولى المفتوحة ، وقد ينزلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل ، وورد في الحديث : . وفي كلام لا تحلفوا بالطواغيت في صحيح ابن المسيب : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت . البخاري
وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن ، لأنهم يعظمونه لأجل أصنامهم ، كما سيأتي في قوله تعالى : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت في هذه السورة .
والآية تشير إلى ما وقع من بعض اليهود ، وفيهم كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، فإنهم بعد وقعة أحد طمعوا أن يسعوا في استئصال المسلمين ، فخرجوا إلى مكة ليحالفوا المشركين على قتال المسلمين ، فنزل كعب عند أبي سفيان ، ونزل بقيتهم في دور قريش ، فقال لهم المشركون أنتم أهل كتاب ولعلكم أن تكونوا أدنى إلى محمد وأتباعه منكم إلينا فلا نأمن مكركم . فقالوا لهم : إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد وأنتم أهدى سبيلا . فقال لهم المشركون : فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم . ففعلوا ، ونزلت هذه الآية إعلاما من الله لرسوله بما بيته اليهود وأهل مكة .
واللام في قوله : للذين كفروا لام العلة ، أي يقولون لأجل الذين كفروا وليس لام تعدية فعل القول . وأريد بهم مشركو مكة وذلك اصطلاح القرآن في إطلاق صفة الكفر [ ص: 87 ] أنه الشرك ، والإشارة بقوله : هؤلاء أهدى إلى الذين كفروا ، وهو حكاية للقول بمعناه ، لأنهم إنما قالوا أنتم أهدى من محمد وأصحابه ، أو قال بعض اليهود لبعض في شأن أهل مكة هؤلاء أهدى ، أي حين تناجوا وزوروا ما سيقولونه ، وكذلك قوله : من الذين آمنوا حكاية لقولهم بالمعنى نداء على غلطهم ، لأنهم إنما قالوا : هؤلاء أهدى من محمد وأتباعه ، وإذ كان محمد وأتباعه مؤمنين فقد لزم من قولهم : إن المشركين أهدى من المؤمنين . وهذا محل التعجيب .
وعقب التعجيب بقوله أولئك الذين لعنهم الله . وموقع اسم الإشارة هنا في نهاية الرشاقة ، لأن من بلغ من وصف حاله هذا المبلغ صار كالمشاهد ، فناسب بعد قوله : ألم تر أن يشار إلى هذا الفريق المدعى أنه مرئي ، فيقال : أولئك . وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيذكر من الحكم لأجل ما تقدم من أحوالهم .
والصلة التي في قوله : الذين لعنهم الله ليس معلوما للمخاطبين اتصاف المخبر عنهم بها اتصاف من اشتهر بها ; فالمقصود أن هؤلاء هم الذين إن سمعتم بقوم لعنهم الله فهم هم .
ويجوز أن يكون المسلمون قد علموا أن اليهود ملعونون ، فالمقصود من الصلة هو ما عطف عليها بقوله : ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا . والموصول على كلا الاحتمالين فيه إيماء إلى تعليل الإخبار الضمني عنهم : بأنهم لا نصير لهم ، لأنهم لعنهم الله ، والذي يلعنه لا نصير له . وهذا مقابل قوله في شأن المسلمين والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا .