الفاء : إما للتفريع ، تفريع الأمر على الآخر ، أي فرع فليقاتل على خذوا حذركم فانفروا ، أو هي فاء فصيحة ، أفصحت عما دل عليه ما تقدم من قوله خذوا حذركم وقوله وإن منكم لمن ليبطئن لأن جميع ذلك اقتضى الأمر بأخذ الحذر ، وهو مهيئ لطلب القتال والأمر بالنفير والإعلام بمن حالهم حال المتردد المتقاعس ، أي فإذا علمتم جميع ذلك ، فالذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة لا كل أحد .
و " يشرون " معناه يبيعون ، لأن شرى مقابل اشترى ، مثل باع وابتاع وأكرى واكترى ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى في سورة البقرة .
فالذين يشرون الحياة الدنيا هم الذين يبذلونها ويرغبون في حظ الآخرة ، وإسناد القتال المأمور به إلى أصحاب هذه الصلة وهي : يشرون الحياة الدنيا بالآخرة للتنويه بفضل المقاتلين في سبيل الله ، .
لأن في الصلة إيماء إلى علة الخبر ، أي يبعثهم على القتال في سبيل الله بذلهم حياتهم الدنيا لطلب الحياة الأبدية ، وفضيحة أمر المبطئين حتى يرتدعوا عن التخلف ، وحتى يكشف المنافقون عن دخيلتهم ، فكان [ ص: 122 ] معنى الكلام : فليقاتل في سبيل الله المؤمنون حقا فإنهم يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، .
ولا يفهم أحد من قوله فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أن الأمر بالقتال مختص بفريق دون آخر . لأن بذل الحياة في الحصول على ثواب الآخرة شيء غير ظاهر حتى يعلق التكليف به ، وإنما هو ضمائر بين العباد وربهم ، فتعين أن إسناد الأمر إلى أصحاب هذه الصلة مقصود منه الثناء على المجاهدين ، وتحقير المبطئين ، كما يقول القائل : " ليس بعشك فادرجي " . فهذا تفسير الآية بوجه لا يعتريه إشكال .
ودخل في قوله أو يغلب أصناف الغلبة على العدو بقتلهم أو أسرهم أو غنم أموالهم .
وإنما اقتصر على القتل والغلبة في قوله فيقتل أو يغلب ولم يزد أو يؤسر إباية من أن يذكر لهم حالة ذميمة لا يرضاها الله للمؤمنين ، وهي حالة الأسر; فسكت عنها لئلا يذكرها في معرض الترغيب وإن كان للمسلم عليها أجر عظيم أيضا إذا بذل جهده في الحرب فغلب إذ الحرب لا تخلو من ذلك ، وليس بمأمور أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنه لا يجدي عنه الاستبسال ، فإن من منافع الإسلام استبقاء رجاله لدفاع العدو .
والخطاب في قوله وما لكم لا تقاتلون التفات من طريق الغيبة ، وهو طريق الموصول في قوله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة إلى طريق المخاطبة .
ومعنى وما لكم لا تقاتلون ما يمنعكم من القتال ، وأصل التركيب : أي شيء حق لكم في حال كونكم لا تقاتلون ، فجملة لا تقاتلون حال من الضمير المجرور للدلالة على ما منه الاستفهام .
والاستفهام إنكاري ، أي لا شيء لكم في حال لا تقاتلون ، والمراد أن الذي هو لكم هو أن تقاتلوا ، فهو بمنزلة أمر ، أي قاتلوا في سبيل الله لا يصدكم شيء عن القتال ، وقد تقدم قريب منه عند قوله تعالى وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله في سورة البقرة .
ومعنى في سبيل الله لأجل دينه ولمرضاته ، فحرف ( في ) للتعليل ، ولأجل المستضعفين ، أي لنفعهم ودفع المشركين عنهم .
و المستضعفون الذين يعدهم الناس ضعفاء فالسين والتاء للحسبان ، وأراد بهم من بقي من المؤمنين بمكة من الرجال الذين منعهم المشركون من الهجرة بمقتضى الصلح الذي [ ص: 123 ] انعقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين سفير قريش إذ كان من الشروط التي انعقد عليها الصلح : أن من جاء إلى سهيل بن عمرو; مكة من المسلمين مرتدا عن الإسلام لا يرد إلى المسلمين ، ومن جاء إلى المدينة فارا من مكة مؤمنا يرد إلى مكة .
ومن المستضعفين الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة . وأما النساء فهن ذوات الأزواج أو ولايى الأولياء المشركين اللائي يمنعهن أزواجهن وأولياؤهن من الهجرة : مثل أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فقد كن يؤذين ويحقرن . وأم الفضل لبابة بنت الحارث زوج العباس ،
وأما الولدان فهم الصغار من أولاد المؤمنين والمؤمنات ، فإنهم كانوا يألمون من مشاهدة تعذيب آبائهم وذويهم وإيذاء أمهاتهم وحاضناتهم . وعن أنه قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين . ابن عباس
والقتال في سبيل هؤلاء ظاهر ، لإنقاذهم من فتنة المشركين ، وإنقاذ الولدان من أن يشبوا على أحوال الكفر أو جهل الإيمان .
و " القرية " هي مكة . وسألوا الخروج منها لما كدر قدسها من ظلم أهلها ، أي ظلم الشرك وظلم المؤمنين ، فكراهية المقام بها من جهة أنها صارت يومئذ دار شرك ومناواة لدين الإسلام وأهله ، ومن أجل ذلك أحلها الله لرسوله أن يقاتل أهلها ، وقد قال عباس بن مرداس يفتخر باقتحام خيل قومه في زمرة المسلمين يوم فتح مكة :
شهدن مع النبيء مسومات حنينا وهي دامية الحوامي ووقعة خالد شهدت وحكت
سنابكها على البلد الحرام
وقد سألوا من الله وليا ونصيرا ، إذ لم يكن لهم يومئذ ولي ولا نصير فنصرهم الله بنبيئه والمؤمنين يوم الفتح .
وأشارت الآية إلى أن الله استجاب دعوتهم وهيأ لهم النصر بيد المؤمنين فقال الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، أي فجند الله لهم عاقبة النصر ، ولذلك فرع عليه الأمر بقوله فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا .
[ ص: 124 ] و الطاغوت : الأصنام ، وتقدم تفسيره في قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت في هذه السورة ، وقوله يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت .
تدبيره ، وهو ما يظهر على أنصاره من الكيد للمسلمين والتدبير لتأليب الناس عليهم . وأكد الجملة بمؤكدين " إن " و " كان " الزائدة الدالة على تقرر وصف الضعف لكيد الشيطان . والمراد بكيد الشيطان