[ ص: 137 ] أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلق بهؤلاء المنافقين أو الكفرة الصرحاء وبتوليهم المعرض بهم في شأنه بقوله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ، وبقولهم طاعة ، ثم تدبير العصيان فيما وعدوا بالطاعة في شأنه . ولما كان ذلك كله أثرا من آثار استبطان الكفر ، أو الشك ، أو اختيار ما هو في نظرهم أولى مما أمروا به ، وكان استمرارهم على ذلك ، مع ظهور دلائل الدين ، منبئا بقلة تفهمهم القرآن ، وضعف استفادتهم ، كان المقام لتفريع الاستفهام عن قلة تفهمهم . فالاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجيب منهم في استمرار جهلهم مع توفر أسباب التدبير لديهم .
تحدى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن ، كما تحداهم بألفاظه ، لبلاغته إذ كان قد شكوا في أن القرآن من عند الله ، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به ، فإذا خرجوا من مجلس النبيء - صلى الله عليه وسلم - خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم ، ويشككون ويشكون إذا بدا لهم شيء من التعارض ، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى المنافقون فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه الآية .
والتدبر مشتق من الدبر ، أي الظهر ، اشتقوا من الدبر فعلا ، فقالوا : تدبر إذا نظر في دبر الأمر ، أي في غائبه أو في عاقبته ، فهو من الأفعال التي اشتقت من الأسماء الجامدة . والتدبر يتعدى إلى المتأمل فيه بنفسه ، يقال : تدبر الأمر .
فمعنى يتدبرون القرآن يتأملون دلالته ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما أن يتأملوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين ، أي تدبر تفاصيله ، وثانيهما : أن يتأملوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنه من عند الله ، وأن الذي جاء به صادق . وسياق هذه الآيات يرجح حمل التدبر هنا على المعنى الأول ، أي لو تأملوا وتدبروا هدي القرآن لحصل [ ص: 138 ] لهم خير عظيم ، ولما بقوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام . وكلا المعنيين صالح بحالهم ، إلا أن المعنى الأول أشد ارتباطا بما حكي عنهم من أحوالهم .
وقوله " ولو كان من عند غير الله إلخ يجوز أن يكون عطفا على الجملة الاستفهامية فيكونوا أمروا بالتدبر في تفاصيله ، وأعلموا بما يدل على أنه من عند الله ، وذلك انتفاء الاختلاف منه .
فيكون الأمر بالتدبر عاما ، وهذا جزئي من جزئيات التدبر ذكر هنا انتهازا لفرصة المناسبة لغمرهم بالاستدلال على صدق الرسول ، فيكون زائدا على الإنكار المسوق له الكلام ، تعرض له لأنه من المهم بالنسبة إليهم إذ كانوا في شك من أمرهم . وهذا الإعراب أليق بالمعنى الأول من معنيي التدبر هنا . ويجوز أن تكون الجملة حالا من القرآن ، ويكون قيدا للتدبر ، أي ألا يتدبرون انتفاء الاختلاف منه فيعلمون أنه من عند الله ، وهذا أليق بالمعنى الثاني من معنيي التدبر .
ومما يستأنس به للإعراب الأول عدم ذكر هذه الزيادة في الآية المماثلة لهذه من سورة القتال ، وهي قوله فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال إلى قوله أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وهذه دقائق من تفسير الآية أهملها جميع المفسرين .
والاختلاف يظهر أنه أريد به اختلاف بعضه مع بعض ، أي اضطرابه ، ويحتمل أنه اختلافه مع أحوالهم : أي لوجدوا فيه اختلافا بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنه من عند الله ، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصف المطلع على الغيوب ، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم . ووصف الاختلاف بالكثير في الطرف الممتنع وقوعه بمدلول ( لو ) . ليعلم المتدبر أن انتفاء الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنه من عند الله ، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب ( لو ) ، فلا يقدر ذلك الطرف مقيدا بقوله " كثيرا " بل يقدر هكذا : لكنه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلا .