انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معينة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعم الأحوال كلها ، وما يقارنه من الشهادة الصادقة ، فإن ، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يجر إلى فساد متسلسل . العدل في الحكم ، وأداء الشهادة بالحق هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي
وصيغة " قوامين " دالة على الكثرة المراد لازمها ، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال .
[ ص: 225 ] والقسط العدل ، وقد تقدم عند قوله تعالى قائما بالقسط في سورة آل عمران . وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأن القسط كلمة معربة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحكم ، وأما لفظ العدل فأعم من ذلك ، ويدل لذلك تعقيبه بقوله شهداء لله فإن الشهادة من علائق القضاء والحكم .
و " لله " ظرف مستقر حال من ضمير " شهداء " أي لأجل الله ، وليست لام تعدية " شهداء " إلى مفعوله ، ولم يذكر تعلق المشهود له بمتعلقه وهو وصف " شهداء " لإشعار الوصف بتعيينه ، أي المشهود له بحق . وقد جمعت الآية أصلي التحاكم ، وهما القضاء والشهادة .
وجملة ولو على أنفسكم حالية ، و " لو " فيها وصلية ، وقد مضى القول في تحقيق موقع ( لو ) الوصلية عند قوله تعالى فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به في سورة آل عمران .
ويتعلق على أنفسكم بكل من " قوامين " و " شهداء " ليشمل القضاء والشهادة .
والأنفس : جمع نفس; وأصلها أن تطلق على الذات ، ويطلقها العرب أيضا على صميم القبيلة ، فيقولون : هو من بني فلان من أنفسهم .
فيجوز أن يكون " أنفسكم " هنا بالمعنى المستعمل به غالبا ، أي : قوموا بالعدل على أنفسكم ، واشهدوا لله على أنفسكم ، أي قضاء غالبا لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم ، لأن حرف ( على ) مؤذن بأن متعلقه شديد فيه كلفة على المجرور بعلى ، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضر وكراهة للقاضي والشاهد .
وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدة والأذى ، لأن أشق شيء على المرء ما يناله من أذى وضر في ذاته ، ثم ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأن أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرا ومشقة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه .
ويجوز أن يراد : ولو على قبيلتكم أو والديكم وقرابتكم . وموقع المبالغة المستفادة من ( لو ) الوصلية أنه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم [ ص: 226 ] ما يكرهونه ، ويرون ذلك من إباء الضيم ، ويرون ذلك حقا عليهم ، ويعدون التقصير في ذلك مسبة وعارا يقضى منه العجب . قال مرة بن عداء الفقسي :
رأيت موالي الألى يخذلونني على حدثان الدهر إذ يتقلب
.ويعدون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية ، حتى يقولون في الدعاء : فداك أبي وأمي ، فكانت الآية تبطل هذه الحمية وتبعث المسلمين على الانتصار للحق والدفاع عن المظلوم .
فإن أبيت إلا جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهدين فاجعل عطف الوالدين والأقربين بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلا يظن أحد أنه يشهد بالحق على نفسه لأن ذلك حقه ، فهو أمير نفسه فيه ، وأنه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبة والمعرة أو التأثم ، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة ، كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط .
وقوله إن يكن غنيا أو فقيرا استئناف واقع موقع العلة لمجموع جملة كونوا قوامين بالقسط شهداء لله : أي إن يكن المقسط في حقه ، أو المشهود له ، غنيا أو فقيرا ، فلا يكن غناه ولا فقره سببا للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه .
والمقصود من ذلك التحذير من التأثر بأحوال يلتبس فيها الباطل بالحق لما يحف بها من عوارض يتوهم أن رعيها ضرب من إقامة المصالح ، وحراسة العدالة ، فلما أبطلت الآية التي قبلها التأثر للحمية أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثر بالمظاهر التي تستجلب النفوس إلى مراعاتها فيتمحض نظرها إليها ، وتغضي بسببها عن تمييز الحق من الباطل ، وتذهل عنه ، فمن النفوس من يتوهم أن الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حق غيره ، يقول في نفسه : هذا في غنية عن أكل حق غيره ، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة .
ومن الناس من يميل إلى الفقير رقة له ، فيحسبه مظلوما ، أو يحسب أن القضاء له بمال الغني لا يضر الغني شيئا ; فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة وهي قوله إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما . وهذا الترديد صالح لكل من أصحاب هذين التوهمين ، فالذي يعظم الغني يدحض لأجله حق الفقير ، والذي يرق للفقير يدحض لأجله حق الغني ، وكلا ذلك باطل ، فإن الذي يراعي حال الغني والفقير ويقدر إصلاح حال الفريقين هو الله تعالى .
[ ص: 227 ] فقوله فالله أولى بهما ليس هو الجواب ، ولكنه دليله وعلته ، والتقدير : فلا يهمكم أمرهما عند التقاضي ، فالله أولى بالنظر في شأنهما ، وإنما عليكم النظر في الحق .
ولذلك فرع عليه قوله فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى ، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى .
والغني : ضد الفقير ، فالغنى هو عدم إلى الاحتياج إلى شيء ، وهو مقول عليه بالتفاوت ، فيعرف بالمتعلق كقوله
كلانا غني عن أخيه حياته
، ويعرف بالعرف يقال : فلان غني ، بمعنى له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه ، فوجدان أجور الأجراء غنى ، وإن كان المستأجر محتاجا إلى الأجراء ، لأن وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج ، والغنى المطلق لا يكون إلا لله تعالى .والفقير : هو المحتاج ، إلا أنه يقال : افتقر إلى كذا ، بالتخصيص ، فإذا قيل : هو فقير ، فمعناه في العرف أنه كثير الاحتياج إلى فضل الناس ، أو إلى الصبر على الحاجة لقلة ثروته ، وكل مخلوق فقير فقرا نسبيا ، قال تعالى والله الغني وأنتم الفقراء .
واسم يكن ضمير مستتر عائد إلى معلوم من السياق ، يدل عليه قوله : قوامين بالقسط شهداء لله من معنى التخاصم والتقاضي . والتقدير : إن يكن أحد الخصمين من أهل هذا الوصف أو هذا الوصف ، والمراد الجنسان ، و " أو " للتقسيم ، وتثنية الضمير في قوله فالله أولى بهما لأنه عائد إلى " غنيا وفقيرا " باعتبار الجنس ، إذ ليس القصد إلى فرد معين ذي غنى ، ولا إلى فرد معين ذي فقر ، بل فرد شائع في هذا الجنس وفي ذلك الجنس .
وقوله أن تعدلوا محذوف منه حرف الجر ، كما هو الشأن مع أن المصدرية ، فاحتمل أن يكون المحذوف لام التعليل فيكون تعليلا للنهي ، أي لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، واحتمل أن يكون المحذوف ( عن ) ، أي فلا تتبعوا الهوى عن العدل ، أي معرضين عنه .
وقد عرفت قاضيا لا مطعن في ثقته وتنزهه ، ولكنه كان مبتلى باعتقاد أن مظنة القدرة والسلطان ليسوا إلا ظلمة : من أغنياء أو رجال . فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين فلا يستوفي التأمل من حججهما .
[ ص: 228 ] وبعد أن أمر الله تعالى ونهى وحذر ، عقب ذلك كله بالتهديد فقال وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا .
وقرأ الجمهور : " تلووا " بلام ساكنة وواوين بعدها ، أولاهما مضمومة فهو مضارع لوى . واللي : الفتل والثني . وتفرعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة ، منها : عدول عن جانب وإقبال على جانب آخر ، فإذا عدي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن ، وإذا عدي بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه ، وإقبال على المجرور بعلى ، قال تعالى ولا تلوون على أحد أي لا تعطفون على أحد .
ومن معانيه : لوى عن الأمر تثاقل ، ولوى أمره عني أخفاه ، ومنها : لي اللسان ، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه ، وتقدم عند قوله تعالى يلوون ألسنتهم بالكتاب في سورة آل عمران ، وقوله ليا بألسنتهم في هذه السورة .
فموقع فعل " تلووا " هنا موقع بليغ لأنه صالح لتقدير متعلقه المحذوف مجرورا بحرف ( عن ) أو مجرورا بحرف ( على ) فيشمل معاني العدول عن الحق في الحكم ، والعدول عن الصدق في الشهادة ، أو التثاقل في تمكين المحق من حقه وأداء الشهادة لطالبها ، أو الميل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة . وأما الإعراض فهو والمماطلة في الحكم مع ظهور الحق ، وهو غير اللي كما رأيت . وقرأه الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة ابن عامر ، وحمزة ، وخلف : وإن تلوا ، بلام مضمومة بعدها واو ساكنة فقيل : هو مضارع ولي الأمر ، أي باشره . فالمعنى : وإن تلوا القضاء بين الخصوم ، فيكون راجعا إلى قوله " أن تعدلوا " ولا يتجه رجوعه إلى الشهادة ، إذ ليس أداء الشهادة بولاية . والوجه أن هذه القراءة تخفيف تلووا نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما ، ويكون معنى القراءتين واحدا .
وقوله فإن الله كان بما تعملون خبيرا كناية عن وعيد ، لأن الخبير بفاعل السوء ، وهو قدير ، لا يعوزه أن يعذبه على ذلك ، وأكدت الجملة بـ " إن " وبـ " كان " .