[ ص: 239 ] استئناف ابتدائي ، فيه زيادة بيان لمساويهم . والمناسبة ظاهرة . وتأكيد الجملة بحرف إن لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله وهو خادعهم .
وتقدم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة عند قوله يخادعون الله والذين آمنوا .
وزادت هذه الآية بقوله وهو خادعهم أي فقابلهم بمثل صنيعهم ، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعا لله تعالى ، كان إمهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجا على المسلمين وأن الله ليس ناصرهم ، وإنذاره المؤمنين بكيدهم حتى لا تنطلي عليهم حيلهم ، وتقدير أخذه إياهم بأخرة ، شبيها بفعل المخادع جزاء وفاقا . فإطلاق الخداع على استدراج الله إياهم استعارة تمثيلية ، وحسنتها المشاكلة; لأن المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار . فالمشاكلة ترجع إلى التمليح ، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقة بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلا محاكاة اللفظ ، سميت مشاكلة كقول أبي الرقعمق .
قالوا : اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت : أطبخوا لي جبة وقميصا
و " كسالى " جمع كسلان على وزن فعالى ، والكسلان المتصف بالكسل ، وهو الفتور في الأفعال لسآمة أو كراهية . والكسل في الصلاة مؤذن بقلة اكتراث المصلي بها وزهده في فعلها ، فلذلك كان من شيم المنافقين . ومن أجل ذلك حذرت الشريعة من تجاوز حد النشاط في العبادة خشية السآمة ، ففي الحديث . عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملواونهى عن الصلاة والإنسان يريد حاجته ، وعن الصلاة عند حضور الطعام ، كل ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بشره وعزم ، لأن [ ص: 240 ] النفس إذا تطرقتها السآمة من الشيء دبت إليها كراهيته دبيبا حتى تتمكن منها الكراهية ، ولا خطر على النفس مثل أن تكره الخير .
و " كسالى " حال لازمة من ضمير " قاموا " ، لأن قاموا لا يصلح أن يقع وحده جوابا لـ " إذا " التي شرطها قاموا ، لأنه لو وقع مجردا لكان الجواب عين الشرط ، فلزم ذكر الحال ، كقوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما وقول الأحوص الأنصاري :
فإذا تزول تزول عن متخمط تخشى بوادره على الأقران
وجملة يراءون الناس حال ثانية ، أو صفة لـ " كسالى " ، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل : ماذا قصدهم بهذا القيام للصلاة وهلا تركوا هذا القيام من أصله ، فوقع البيان بأنهم يراءون بصلاتهم الناس . و " يراءون " فعل يقتضي أنهم يرون الناس صلاتهم ويريهم الناس كذلك . وليس الأمر كذلك ، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة ، وهذا كثير في باب المفاعلة .
وقوله ولا يذكرون الله إلا قليلا معطوف على " يراءون " إن كان " يراءون " حالا أو صفة ، وإن كان " يراءون " استئنافا فجملة " ولا يذكرون " حال ، والواو واو الحال ، أي : ولا يذكرون الله بالصلاة إلا قليلا . فالاستثناء إما من أزمنة الذكر ، أي إلا وقتا قليلا ، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذ فيذكرون الله بالتكبير وغيره ، وإما من مصدر " يذكرون " ، أي إلا ذكرا قليلا في تلك الصلاة التي يراءون بها ، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل : التأمين ، وقول ربنا لك الحمد ، والتكبير ، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسبيح الركوع ، وقراءة ركعات السر . ولك أن تجعل جملة " ولا يذكرون " معطوفة على جملة " وإذا قاموا " ، فهي خبر عن خصالهم ، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلا حالا قليلا أو زمنا قليلا وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربه في المنشط والمكره ، أي أنهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كل حال ، ويكثرون من ذكره .
وعلى كل تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرهم بنعمة ربهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه .
ثم جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله مذبذبين بين ذلك وهو حال من ضمير " يراءون " .
[ ص: 241 ] والمذبذب اسم مفعول من الذبذبة . يقال : ذبذبه فتذبذب . والذبذبة : شدة الاضطراب من خوف أو خجل ، قيل : إن الذبذبة مشتقة من تكرير ذب إذا طرد ، لأن المطرود يعجل ويضطرب ، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير ، مثل زلزل ولملم بالمكان وصلصل وكبكب ، وفيه لغة بدالين مهملتين ، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم ، يقولون : رجل مدبدب ، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق . فقيل : إنها مشتقة من الدبة بضم الدال وتشديد الباء الموحدة أي الطريقة بمعنى أنه يسلك مرة هذا الطريق ومرة هذا الطريق .
والإشارة بقوله بين ذلك إلى ما استفيد من قوله يراءون الناس لأن الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذبا ، إذ يجد في الناس أصنافا متباينة المقاصد والشهوات .
ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور ، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه ، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر .
وجملة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء صفة لـ " مذبذبين " لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة ، أو هي بيان لقوله مذبذبين بين ذلك . و " هؤلاء " أحدهما إشارة إلى المؤمنين ، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين ، إذ ليس في المقام إلا فريقان فأيها جعلته مشارا إليه بأحد اسمي الإشارة صح ذلك ، ونظيره قوله تعالى فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه .
والتقدير : لا هم إلى المسلمين ولا هم إلى الكافرين . و " إلى " متعلقة بمحذوف دل عليه معنى الانتهاء ، أي لا ذاهبين إلى هذا الفريق ولا إلى الفريق الآخر ، والذهاب الذي دلت عليه " إلى " ذهاب مجازي وهو الانتماء والانتساب ، أي هم أضاعوا النسبتين فلا هم مسلمون ولا هم كافرون ثابتون ، والعرب تأتي بمثل هذا التركيب المشتمل على ( لا ) النافية مكررة في غرضين : تارة يقصدون به إضاعة الأمرين ، كقول إحدى نساء حديث أم زرع لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ، وقوله تعالى فلا صدق ولا صلى لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث . وتارة يقصدون به إثبات حالة وسط بين حالين ، كقوله تعالى لا شرقية ولا غربية لا فارض ولا بكر ، وقول زهير :
فلا هو أخفاها ولم يتقدم
[ ص: 242 ] وعلى الاستعمالين فمعنى الآية خفي ، إذ ليس المراد إثبات حالة وسط للمنافقين بين الإيمان والكفر ، لأنه لا طائل تحت معناه . فتعين أنه من الاستعمال الأول ، أي ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين ، وهم في التحقيق ، إلى الكافرين ، كما دل عليه آيات كثيرة ، كقوله الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وقوله وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين . فتعين أن المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين . وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله ، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب . والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتهم لينبذهم الفريقان .وقوله فلن تجد له سبيلا الخطاب لغير معين ، والمعنى : لن تجد له سبيلا إلى الهدى بقرينة مقابلته بقوله ومن يضلل الله .