هذا استدراك على معنى أثاره الكلام : لأن ما تقدم من قوله يسألك أهل الكتاب مسوق مساق بيان تعنتهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحة تعالى ، فكان هذا المعنى يستلزم أنهم يأبون من الشهادة بصدق الرسول ، وأن ذلك يحزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء الاستدراك بقوله ( نسبة القرآن إلى الله لكن الله يشهد ) . فإن الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه . والمعنى : لم يشهد أهل الكتاب لكن الله شهد وشهادة الله خير من شهادتهم .
وقد مضى عند قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم في سورة البقرة ، أن حقيقة الشهادة إخبار لتصديق مخبر ، وتكذيب مخبر آخر . وتقدم أنها تطلق على الخبر المحقق الذي لا يتطرقه الشك عند قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو في سورة آل عمران . فالشهادة في قوله ( لكن الله يشهد ) أطلقت على الإخبار بنزول القرآن من الله إطلاقا مجازيا ، لأن هذا الخبر تضمن ، وهو إطلاق على وجه الاستعارة من الإطلاق الحقيقي هو غير الإطلاق الذي في قوله تصديق الرسول وتكذيب معانديه شهد الله أنه لا إله إلا هو فإنه على طريقة المجاز المرسل . وعطف شهادة الملائكة على شهادة الله : لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدد الشهود ، ولأن شهادة الله مجاز في العلم وشهادة الملائكة [ ص: 45 ] حقيقة . وإظهار فعل ( يشهدون ) مع وجود حرف العطف للتأكيد . وحرف ( لكن ) بسكون النون مخفف ( لكن ) المشددة النون التي هي من أخوات ( إن ) وإذا خففت بطل عملها .
وقوله وكفى بالله شهيدا يجري على الاحتمالين .
وقوله بما أنزل إليك أنزله بعلمه وقع تحويل في تركيب الجملة لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ، ليكون أوقع في النفس . وأصل الكلام : يشهد بإنزال ما أنزله إليك بعلمه ، لأن قوله ( بما أنزل إليك ) لم يفد المشهود به إلا ضمنا مع المشهود فيه إذ جيء باسم الموصول ليوصل بصلة فيها إيماء إلى المقصود ، ومع ذلك لم يذكر المقصود من الشهادة الذي هو حق مدخول الباء بعد مادة شهد ، فتكون جملة ( أنزله بعلمه ) مكملة معنى الشهادة . وهذا قريب من التحويل الذي يستعمله العرب في تمييز النسبة . وقال : موقع قوله ( الزمخشري أنزله بعلمه ) من قوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك موقع الجملة المفسرة ؛ لأنه بيان للشهادة وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز . فلعله يجعل جملة لكن الله يشهد بما أنزل إليك مستقلة بالفائدة ، وأن معنى ( بما أنزل إليك ) بصحة ما أنزل إليك ، وما ذكرته أعرق في البلاغة .
ومعنى ( أنزله بعلمه ) أي متلبسا بعلمه ، أي بالغا الغاية في باب الكتب السماوية ، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى ، ومعنى ذلك أنه معجز لفظا ومعنى ، فكما أعجز البلغاء من أهل اللسان أعجز العلماء من أهل الحقائق العالية .
والباء في قوله وكفى بالله شهيدا زائدة للتأكيد ، وأصله : كفى الله شهيدا كقوله :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
أو يضمن ( كفى ) معنى اقتنعوا ، فتكون الباء للتعدية .