[ ص: 119 ] اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم .
يجيء في التقييد ( باليوم ) هنا ما جاء في قوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم وقوله اليوم أكملت لكم دينكم ، عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم ، فلا يجيء هنا ، لأن إحلال الطيبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرما ، ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كلية ، فيكون كقوله ورضيت لكم الإسلام دينا في تعلق قوله اليوم به ، كما تقدم .
ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله اليوم يئس و اليوم أكملت أن هذا أيضا منة كبرى لأن إلقاء الأحكام بصفة كلية نعمة في التفقه في الدين .
والكلام على الطيبات تقدم آنفا ، فأعيد ليبنى عليه قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب . وعطف جملة وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم على جملة اليوم أحل لكم الطيبات لأجل ما في هذه الرخصة من المنة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرم الله عليهم طعامهم لشق ذلك عليهم .
والطعام في كلام العرب ما يطعمه المرء ويأكله ، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة ، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح . قال ابن عطية : الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوهما لا يغيره تملك أحد له ، والطعام الذي تقع فيه محاولة صنعته لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وعصر الزيت . فهذا إن تجنب من الذمي فعلى جهة التقذر . والتذكية هي المحتاجة إلى الدين والنية ، فلما كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمة وأخرجها عن القياس . وأراد بالقياس قياس أحوال [ ص: 120 ] ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا ، ولهذا قال كثير من العلماء : أراد الله هنا بالطعام الذبائح ، مع اتفاقهم على أن غيرها من الطعام مباح ، ولكن هؤلاء قالوا : إن غير الذبائح ليس مرادا ، أي لأنه ليس موضع تردد في إباحة أكله .
والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كل طعام قد يظن أنه محرم علينا إذ تدخله صنعتهم ، وهم لا يتوقون ما نتوقى ، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه . ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح .
والذين أوتوا الكتاب : هم أتباع التوراة والإنجيل ، سواء كانوا ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتباع الدين ، أم كانوا ممن اتبعوا الدينين اختيارا ; فإن موسى وعيسى دعوا بني إسرائيل خاصة ، وقد تهود من العرب أهل اليمن ، وتنصر من العرب تغلب ، وبهراء ، وكلب ، ولخم ، ونجران ، وبعض ربيعة وغسان ، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا فإنه قال : لا تحل ذبائح علي بن أبي طالب نصارى تغلب ، وقال : إنهم لم يتمسكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر . وقال القرطبي : هذا قول وروى الشافعي ، الربيع عن : لا خير في الشافعي نصارى العرب من ذبائح تغلب . وعن : من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمدية فهو من أهل الكتاب ، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلا الإسلام ، ولا تقبل منه الجزية ، أي كالمشركين . الشافعي
وأما المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع ، فلا تؤكل ذبائحهم ، وشذ من جعلهم أهل كتاب . وأما المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف .
وحكمة الرخصة في أهل الكتاب : لأنهم على دين إلهي يحرم الخبائث ، ويتقي النجاسة ، ولهم في شئونهم أحكام مضبوطة متبعة [ ص: 121 ] لا تظن بهم مخالفتها ، وهي مستندة للوحي الإلهي ، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان . وأما المجوس فلهم كتاب لكنه ليس بالإلهي ، فمنهم أتباع ( زراد شت ) ، لهم كتاب ( الزندفستا ) وهؤلاء هم محل الخلاف . وأما المجوس المانوية فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان ، أو هم شر منهم . وقد قال مالك : ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتقون النجاسة . وفي جامع الترمذي : أن أبا ثعلبة الخشني المجوس فقال له : أنقوها غسلا واطبخوا فيها قدور . سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
وفي : أن البخاري أبا ثعلبة . فقال له : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها آنية أهل الكتاب . قال سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ابن العربي : فغسل آنية المجوس فرض ، وغسل آنية أهل الكتاب ندب . يريد لأن الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم ، وإنما يسري الشك إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه ، ولم يبح لنا طعام المجوس ، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين .
ثم الطعام الشامل للذكاة إنما يعتبر طعاما لهم إذا كانوا يستحلونه في دينهم ، ويأكله أحبارهم وعلماؤهم ، ولو كان مما ذكر القرآن أنه حرمه عليهم ، لأنهم قد تأولوا في دينهم تأويلات ، وهذا قول مالك . وأرى أن دليله : أن الآية عممت طعامهم فكان عمومها دليلا للمسلمين ، ولا التفات إلى ما حكى الله أنه حرمه عليهم ثم أباحه للمسلمين ، فكان عموم طعامهم في شرعنا مباحا ناسخا للمحرم عليهم ، ولا نصير إلى الاحتجاج ( بشرع من قبلنا . . . ) إلا إذا لم يكن لنا دليل على حكمه في شرعنا . وقيل : لا يؤكل ما علمنا تحريمه عليهم بنص القرآن ، وهو قول بعض أهل العلم ، وقيل به في مذهب مالك ، والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم ; لأن الله ذكر أنه حرم عليهم الشحوم .
[ ص: 122 ] ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرمه الله علينا بعينه : كالخنزير والدم ، ولا ما حرمه علينا بوصفه ، الذي ليس بذكاة : كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع ، إذا كانوا هم يستحلون ذلك ، فأما ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفة تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محل نظر كالمضروبة بمحدد على رأسها فتموت ، والمفتولة العنق فتتمزق العروق ، فقال جمهور العلماء : لا تؤكل . وقال من المالكية : تؤكل . وقال في الأحكام : فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس فالجواب : أن هذه ميتة ، وهي حرام بالنص ، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن ، كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا يريد إباحته عند أبو بكر بن العربي النصارى ثم قال : ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها ; هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه ؟ فقلت : تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا . وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي ، وإنما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم والأوداج ولو بالخنق ، وبين نحو الخنق لحبس النفس ، ورض الرأس . وقول ابن العربي شذوذ .
وقوله وطعامكم حل لهم لم يعرج المفسرون على بيان المناسبة بذكر وطعامكم حل لهم . والذي أراه أن الله تعالى نبهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم ، فأباح لنا طعامهم ، وأباح لنا أن نطعمهم طعامنا ، فعلم من هذين الحكمين أن علة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم ، وذلك أيضا تمهيد لقوله بعد والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب لأن ذلك يقتضي شدة المخالطة معهم لتزوج نسائهم والمصاهرة معهم .