قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه .
البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان ، أي فألهم الله غرابا ينزل بحيث يراه قابيل . وكأن اختيار الغراب لهذا العمل إما لأن الدفن حيلة في الغربان من قبل ، وإما لأن الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس . ولعل هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب ، فقالوا : غراب البين .
والضمير المستتر في " يريه " إن كان عائدا إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان ، وإن كان عائدا إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع ، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز ، لأنه سبب الرؤية فكأنه مريء . و كيف يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام مرادا منها الكيفية ، أو للاستفهام ، والمعنى : ليريه جواب كيف يواري .
والسوأة : ما تسوء رؤيته ، وهي هنا تغير رائحة القتيل وتقطع جسمه .
وكلمة " يا ويلتا " من صيغ الاستغاثة المستعملة في التعجب ، وأصله يا لويلتي ، فعوضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم : يا عجبا ، ويجوز أن يجعل الألف عوضا عن ياء المتكلم ، وهي لغة ، ويكون النداء مجازا بتنزيل الويلة منزلة ما ينادى ، كقوله : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله .
[ ص: 174 ] والاستفهام في أعجزت إنكاري .
وهذا المشهد العظيم هو مشهد أول حضارة في البشر ، وهي من قبيل طلب ستر المشاهد المكروهة . وهو أيضا مشهد أول علم اكتسبه البشر بالتقليد وبالتجربة ، وهو أيضا مشهد أول مظاهر تلقي البشر معارفه من عوالم أضعف منه كما تشبه الناس بالحيوان في الزينة ، فلبسوا الجلود الحسنة الملونة وتكللوا بالريش الملون وبالزهور والحجارة الكريمة ، فكم في هذه الآية من عبرة للتاريخ والدين والخلق .