جملة معطوفة على جملة إنما جزاء الذين يحاربون . والسارق مبتدأ [ ص: 190 ] والخبر محذوف عند سيبويه . والتقدير : مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما . وقال : الخبر هو جملة المبرد فاقطعوا أيديهما ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط; لأن تقديره : والذي سرق والتي سرقت . والموصول إذا أريد منه التعميم ينزل منزلة الشرط أي يجعل ( ال ) فيها اسم موصول فيكون كقوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ، وقوله : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما . قال : وهذا إذا كان في الكلام ما يدل على أن المبتدأ ذكر في معرض القصص أو الحكم أو الفرائض نحو سيبويه واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا ، واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ، والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إذ التقدير في جميع ذلك : وحكم اللاتي يأتين ، أو : وجزاء السارق والسارقة .
ولقد ذكرها في الكافية واختصرها بقوله : والفاء للشرط عند المبرد وجملتان عند ابن الحاجب يعني : وأما عند سيبويه ، فهي جملة شرط وجوابه فكأنها جملة واحدة وإلا فالمختار النصب . أشار إلى قراءة المبرد عيسى بن عمر والسارق والسارقة . بالنصب ، وهي قراءة شاذة لا يعتد بها فلا يخرج القرآن عليها . وقد غلط في قوله : فالمختار النصب . ابن الحاجب
وقوله : فاقطعوا أيديهما ضمير الخطاب لولاة الأمور بقرينة المقام ، كقوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة . وليس الضمير عائدا على الذين آمنوا في قوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله .
وجمع الأيدي باعتبار أفراد نوع السارق . وثني الضمير باعتبار الصنفين الذكر والأنثى; فالجمع هنا مراد منه التثنية كقوله تعالى فقد صغت قلوبكما .
ووجه ذكر السارقة مع السارق دفع توهم أن يكون صيغة التذكير في السارق قيدا بحيث لا يجرى حد السرقة إلا على الرجال ، وقد كانت العرب لا يقيمون للمرأة وزنا فلا يجرون عليها الحدود ، وهو الداعي إلى ذكر الأنثى في قوله [ ص: 191 ] تعالى في سورة البقرة الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى . وقد المخزومية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها وعظم ذلك على قريش ، فقالوا : من يشفع لها عند رسول الله إلا فلما شفع لها أنكر عليه وقال : أتشفع في حد من حدود الله ، وخطب فقال إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف قطعوه ، والله لو أن زيد بن حارثة ، فاطمة سرقت لقطعت يدها . سرقت
وفي تحقيق ونصاب معنى السرقة المقدار المسروق الموجب للحد مجال لأهل الاجتهاد من علماء السلف وأئمة المذاهب وليس من غرض المفسر . وكيفية القطع
وليس من عادة القرآن تحديد المعاني الشرعية وتفاصيلها ولكنه يؤصل تأصيلها ويحيل ما وراء ذلك إلى متعارف أهل اللسان من معرفة حقائقها وتمييزها عما يشابهها .
فالسارق : المتصف بالسرقة . والسرقة معروفة عند العرب مميزة عن الغارة والغصب والاغتصاب والخلسة ، والمؤاخذة بها ترجع إلى اعتبار الشيء المسروق مما يشح به معظم الناس .
فالسرقة : أخذ أحد شيئا لا يملكه خفية عن مالكه مخرجا إياه من موضع هو حرز مثله لم يؤذن آخذه بالدخول إليه .
والمسروق : ما له منفعة لا يتسامح الناس في إضاعته . وقد أخذ العلماء تحديده بالرجوع إلى قيمة أقل شيء حكم النبيء صلى الله عليه وسلم بقطع يد من سرقه . وقد ثبت في الصحيح أنه حكم بقطع يد سارق حجفة - بحاء مهملة فجيم مفتوحتين - ( ترس من جلد ) تساوي ربع دينار في قول الجمهور ، [ ص: 192 ] وتساوي دينارا في قول أبي حنيفة ، والثوري ، وتساوي نصف دينار في قول بعض الفقهاء . وابن عباس ،
ولم يذكر القرآن في عقوبة السارق سوى قطع اليد .
وقد كان قطع يد السارق حكما من عهد الجاهلية ، قضى به الوليد بن المغيرة فأقره الإسلام كما في الآية . ولم يرد في السنة خبر صحيح إلا بقطع اليد .
وأول رجل قطعت يده في الإسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، وأول امرأة قطعت يدها المخزومية مرة بنت سفيان .
فاتفق الفقهاء على أن أول ما يبدأ به في . فقال الجمهور : اليد اليمنى ، وقال فريق : اليد اليسرى ، فإن سرق ثانية ، فقال جمهور الأئمة : تقطع رجله المخالفة ليده المقطوعة . وقال عقوبة السارق أن تقطع يده : لا يقطع ولكن يحبس ويضرب . وقضى بذلك علي بن أبي طالب وهو قول عمر بن الخطاب ، أبي حنيفة . فقال علي : إني لأستحيي أن أقطع يده الأخرى فبأي شيء يأكل ويستنجي ؟ أو رجله فعلى أي شيء يعتمد; فإن سرق الثالثة والرابعة فقال مالك : تقطع يده الأخرى ورجله الأخرى ، وقال والشافعي : لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل لا يزاد على ذلك ، وبه قال الزهري أحمد بن حنبل ، والثوري ، . ويجب القضاء بقول وحماد بن سلمة أبي حنيفة فإن الحدود تدرأ بالشبهات وأي شبهة أعظم من اختلاف أئمة الفقه المعتبرين .
والجزاء : المكافأة على العمل بما يناسب ذلك العمل من خير أو شر ، قال تعالى إن للمتقين مفازا إلى قوله : جزاء من ربك عطاء حسابا في سورة النبأ ، وقال تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها في سورة الشورى .
والنكال : العقاب الشديد الذي من شأنه أن يصد المعاقب عن العود إلى مثل عمله الذي عوقب عليه ، وهو مشتق من النكول عن الشيء ، أي النكوص عنه والخوف منه .
[ ص: 193 ] فالنكال ضرب من جزاء السوء ، وهو أشده ، وتقدم عند قوله تعالى فجعلناها نكالا الآية في سورة البقرة .
وانتصب جزاء على الحال أو المفعول لأجله ، وانتصب نكالا على البدل من جزاء بدل اشتمال .
الجزاء على السرقة جزاء يقصد منه الردع وعدم العود ، أي جزاء ليس بانتقام ولكنه استصلاح . وضل من حسب القطع تعويضا عن المسروق ، فقال من بيتين ينسبان إلى المعري وليس في السقط ولا في اللزوميات : فحكمة مشروعية القطع
يد بخمس مئين عسجـد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
ونسب جوابه : لعلم الدين السخاويعز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
قال ابن العربي : لأن المحارب مستبد بنفسه معتصم بقوته لا يناله الإمام إلا بالإيجاف بالخيل والركاب فأسقط إجزاؤه بالتوبة استنزالا من تلك الحالة كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام . وأما السارق والزاني فهما في قبضة المسلمين . اهـ .
[ ص: 194 ] وقال عطاء : إن جاء السارق تائبا قبل القدرة عليه سقط عنه القطع ، ونقل هذا عن وهو من حمل المطلق على المقيد حملا على حكم المحارب ، وهذا يشبه أن يكون من متحد السبب مختلف الحكم . والتحقيق أن آية الحرابة ليست من المقيد بل هي حكم مستفاد استقلالا وأن الحرابة والسرقة ليسا سببا واحدا فليست المسألة من متحد السبب ولا من قبيل المطلق الذي قابله مقيد . الشافعي ،