فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين .
تفريع على ما تضمنه قوله تعالى سماعون لقوم آخرين لم يأتوك وقوله : يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ، فإن ذلك دل على حوار وقع بينهم في إيفاد نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحكيم في شأن من شئونهم مالت أهواؤهم إلى تغيير حكم التوراة فيه بالتأويل أو الكتمان ، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النبيء صلى الله عليه وسلم ما يعتضدون به . وظاهر الشرط يقتضي أن الله أعلم رسوله باختلافهم في حكم حد الزنا ، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون . وقد قال بذلك بعض المفسرين فتكون هذه الآية من . ويحتمل أن المراد : فإن جاءوك مرة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . دلائل النبوءة
وقد خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم . ووجه التخيير تعارض السببين; فسبب إقامة العدل يقتضي الحكم [ ص: 203 ] بينهم ، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلا يعرض الحكم النبوي للاستخفاف . وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشق المقتضي أنه يحكم بينهم إشارة إلى أن الحكم بينهم أولى ، ويؤيده قوله بعد وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين أي بالحق ، وهو حكم الإسلام بالحد . وأما قوله : وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا فذلك تطمين للنبيء صلى الله عليه وسلم لئلا يقول في نفسه : كيف أعرض عنهم ، فيتخذوا ذلك حجة علينا ، يقولون : ركنا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنا فلا نسمع دعوتكم من بعد . وهذا مما يهتم به النبيء صلى الله عليه وسلم لأنه يؤول إلى تنفير رؤسائهم دهماءهم من دعوة الإسلام فطمنه الله تعالى بأنه إن فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرة . ولعل في هذا التطمين إشعارا بأنهم لا طمع في إيمانهم في كل حال . وليس المراد بالضر ضر العداوة أو الأذى لأن ذلك لا يهتم به النبيء صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم ، خلافا لما فسر به المفسرون هنا .
وتنكير " شيئا " للتحقير كما هو في أمثاله ، مثل فلن تملك له من الله شيئا . وهو منصوب على المفعولية المطلقة لأنه في نية الإضافة إلى مصدر ، أي شيئا من الضر ، فهو نائب عن المصدر .
وقد تقدم القول في موقع كلمة " شيء " عند قوله تعالى ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع في سورة البقرة .
والآية تقتضي تخيير حكام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكموهم; لأن إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكام مساو إباحته للرسول . واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكام المسلمين في خصومات غير المسلمين . وقد دل الاستقراء على أن الأصل في أن يحكم بينهم حكام ملتهم ، فإذا تحاكموا إلى حكام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكل ما ينتشر منه فساد فلا [ ص: 204 ] خلاف أنه يجب الحكم بينهم . وعلى هذا فالتخيير الذي في الآية مخصوص بالإجماع . وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات . الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض
فمن العلماء من قال : حكم هذا التخيير محكم غير منسوخ ، وقالوا : الآية نزلت في قصة الرجم التي رواها مالك في الموطأ من بعده وذلك أن يهوديا زنى بامرأة يهودية ، فقال جميعهم : لنسأل والبخاري محمدا عن ذلك . فتحاكموا إليه ، فخيره الله تعالى . واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم : كان اليهود بالمدينة يومئذ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمة ، فالتخيير باق مع أمثالهم ممن ليس داخلا تحت ذمة الإسلام ، بخلاف الذين دخلوا في ذمة الإسلام فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم . وهو قول ابن القاسم في رواية لأن اليهوديين كانا من عيسى بن دينار ، أهل خيبر أو فدك وهما يومئذ من دار الحرب في موادعة . وقال الجمهور : هذا التخيير عام في أهل الذمة أيضا . وهذا قول مالك ورواية عن . قال الشافعي مالك : الإعراض أولى .
وقيل : لا يحكم بينهم في الحدود ، وهذا أحد قولي . الشافعي
وقيل : التخيير منسوخ بقوله تعالى بعد وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، وهو قول أبي حنيفة ، وقاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وعمر بن عبد العزيز ، والنخعي ، . ويبعده أن سياق الآيات يقتضي أنها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخا لأولها . وعطاء الخراساني
وقوله : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط أي بالعدل . والعدل : الحكم الموافق لشريعة الإسلام . وهذا يحتمل أن الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التوراة لأنها شريعة منسوخة بالإسلام . وهذا الذي رواه مالك . وعلى هذا فالقصة التي حكموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنه قصر حكمه على أن بين لليهود حقيقة شرعهم في التوراة ، فاتضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرع الإسلام; فهو حكم على اليهود بأنهم كتموا . ويكون ما وقع في حديث الموطأ : أن الرجل والمرأة [ ص: 205 ] رجما ، إنما هو بحكم أحبارهم . ويحتمل أن الله أمره أن يحكم بينهم بما في التوراة لأنه يوافق حكم الإسلام; فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها . ويحتمل أن الله رخص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكموه . وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه والبخاري القرطبي . وقائل هذا يقول : هذا نسخ بقوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، وهو قول جماعة من التابعين . ولا داعي إلى دعوى النسخ ، ولعلهم أرادوا به ما يشمل البيان ، كما سنذكره عند قوله : فاحكم بينهم بما أنزل الله .
والذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم : أن الأمة أجمعت على أن ، وأن عهود الذمة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشئون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددت لهم شرائعهم . ولذلك فالأمور التي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام : القسم الأول : ما هو خاص بذات الذمي من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها مما هو من الحلال والحرام . وهذا لا اختلاف بين العلماء في أن أيمة المسلمين لا يتعرضون لهم بتعطيله إلا إذا كان فيه فساد عام كقتل النفس . أهل الذمة داخلون تحت سلطان الإسلام
القسم الثاني : ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام ، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال التي يستحلونها ويحرمها الإسلام . وهذه أيضا يقرون عليها ، قال مالك : لا يقام حد الزنا على الذميين ، فإن زنى مسلم بكتابية يحد المسلم ولا تحد الكتابية . قال ابن خويز منداد : ولا يرسل الإمام إليهم رسولا ولا يحضر الخصم مجلسه .
القسم الثالث : ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض . وقد أجمع علماء الأمة على أن هذا القسم يجري على أحكام الإسلام ، لأنا لم نعاهدهم على الفساد ، وقد قال تعالى والله لا يحب الفساد ، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرمات .
[ ص: 206 ] القسم الرابع : ما يجري بينهم من المعاملات التي فيها اعتداء بعضهم على بعض : كالجنايات ، والديون ، وتخاصم الزوجين . فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرض لهم ، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين ، فقال مالك : يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوبا ، لأن في الاعتداء ضربا من الظلم والفساد ، وكذلك قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر . وقال أبو حنيفة : لا يحكم بينهم حتى يتراضى الخصمان معا .