لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .
[ ص: 292 ] جملة لعن مستأنفة استئنافا ابتدائيا فيها تخلص بديع لتخصيص اليهود بالإنحاء عليهم دون النصارى . وهي خبرية مناسبة لجملة قد ضلوا من قبل ، تتنزل منها منزلة الدليل ، لأن فيها استدلالا على اليهود بما في كتبهم وبما في كتب النصارى . والمقصود إثبات أن الضلال مستمر فيهم فإن ما بين داود وعيسى أكثر من ألف سنة .
و ( على ) في قوله على لسان داود للاستعلاء المجازي المستعمل في تمكن الملابسة ، فهي استعارة تبعية لمعنى باء الملابسة مثل قوله تعالى أولئك على هدى من ربهم ، قصد منها المبالغة في الملابسة ، أي لعنوا بلسان داود ، أي بكلامه الملابس للسانه . وقد ورد في سفر الملوك وفي سفر المزامير أن داود لعن الذين يبدلون الدين ، وجاء في المزمور الثالث والخمسين " الله من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله كلهم قد ارتدوا معا فسدوا " ، ثم قال " أخزيتهم لأن الله قد رفضهم ليت من صهيون خلاص إسرائيل " . وفي المزمور 109 " قد انفتح علي فم الشرير وتكلموا معي بلسان كذب أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب " ، ثم قال " ينظرون إلي وينغضون رءوسهم " . ثم قال " أما هم فيلعنون وأما أنت فتبارك ، قاموا وخزوا أما عبدك فيفرح " ذلك أن بني إسرائيل كانوا قد ثاروا على داود مع ابنه ابشلوم . وكذلك لعنهم على لسان عيسى متكرر في الأناجيل .
وذلك إشارة إلى اللعن المأخوذ من لعن أو إلى الكلام السابق بتأويل المذكور .
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا; كأن سائلا يسأل عن موجب هذا اللعن فأجيب بأنه بسبب عصيانهم وعدوانهم ، أي لم يكن بلا سبب . وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السببية ومع وقوعه في جواب سؤال مقدر أفاد مجموع ذلك مفاد القصر ، أي ليس لعنهم إلا بسبب عصيانهم كما أشار إليه في الكشاف وليس في الكلام صيغة قصر ، فالحصر مأخوذ من مجموع الأمور الثلاثة . وهذه النكتة من غرر صاحب الكشاف . والمقصود من الحصر أن لا يضل الناس في تعليل سبب اللعن فربما أسندوه إلى سبب غير ذلك على عادة الضلال في العناية بالسفاسف [ ص: 293 ] والتفريط في المهمات ، لأن التفطن لأسباب العقوبة أول درجات التوفيق . ومثل ذلك مثل البله من الناس تصيبهم الأمراض المعضلة فيحسبونها من مس الجن أو من عين أصابتهم ويعرضون عن العلل والأسباب فلا يعالجونها بدوائها .
و ( ما ) في قوله بما عصوا مصدرية ، أي بعصيانهم وكونهم معتدين ، فعدل عن التعبير بالمصدرين إلى التعبير بالفعلين مع ( ما ) المصدرية ليفيد الفعلان معنى تجدد العصيان واستمرار الاعتداء منهم ، ولتفيد صيغة المضي أن ذلك أمر قديم فيهم ، وصيغة المضارع أنه متكرر الحدوث . فالعصيان هو مخالفة أوامر الله تعالى . والاعتداء هو إضرار الأنبياء . وإنما عبر في جانب العصيان بالماضي لأنه تقرر فلم يقبل الزيادة ، وعبر في جانب الاعتداء بالمضارع لأنه مستمر ، فإنهم اعتدوا على محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والمنافقة ومحاولة الفتك والكيد .
وجملة كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن قوله ذلك بما عصوا ، وهو أن يقال كيف تكون أمة كلها متمالئة على العصيان والاعتداء ، فقال كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أو النفر القليل ، فإذا لم يجدوا من يغير عليهم تزايدوا فيها ففشت واتبع فيها الدهماء بعضهم بعضا حتى تعم وينسى كونها مناكر فلا يهتدي الناس إلى الإقلاع عنها والتوبة منها فتصيبهم لعنة الله . وقد روى الترمذي وأبو داود من طرق عن بألفاظ متقاربة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود كان الرجل من بني إسرائيل يلقى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وخليطه وشريكه ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ثم قرأ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل إلى قوله فاسقون ثم قال : . والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم
[ ص: 294 ] وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضا باعتبار مجموع الأمة وأن ناهي فاعل المنكر منهم هو بصدد أن ينهاه المنهي عندما يرتكب هو منكرا فيحصل بذلك التناهي ، فالمفاعلة مقدرة وليست حقيقية ، والقرينة عموم الضمير في قوله فعلوه ، فإن المنكر إنما يفعله بعضهم ويسكت عليه البعض الآخر ، وربما فعل البعض الآخر منكرا آخر وسكت عليه البعض الذي كان فعل منكرا قبله وهكذا ، فهم يصانعون أنفسهم .
والمراد بما يفعلون تركهم التناهي .
وأطلق على ترك التناهي لفظ الفعل في قوله لبئس ما كانوا يفعلون مع أنه ترك ، لأن السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرضا به والمشاركة فيه .
وفي هذا دليل للقائلين من أئمة الكلام من الأشاعرة بأنه لا تكليف إلا بفعل ، وأن المكلف به في النهي فعل ، وهو الانتهاء ، أي الكف ، والكف فعل ، وقد سمى الله الترك هنا فعلا . وقد أكد فعل الذم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمه .