فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب .
لا أحسب هذه الآية إلا تبيينا لقوله في صدر السورة غير محلي الصيد وأنتم حرم ، وتخلصا لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام ، وتمهيدا لقوله يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم جرت إلى هذا التخلص مناسبة ذكر المحرمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما; فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصهم حذرهم ، وشهوتهم تقواهم . وهي حالة ابتلاء وتمحيص ، يظهر بها في الوجود اختلاف تمسكهم بوصايا الله تعالى ، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية ، لأن قوله ليبلونكم ظاهر في الاستقبال ، لأن نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلا وهو بمعنى المستقبل . والظاهر أن حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقررا بمثل هذا . وقد روي عن مقاتل : أن المسلمين في عمرة الحديبية غشيهم صيد كثير في طريقهم ، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم ، فمنهم المحل ومنهم المحرم ، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي ، وصيد بعضه بالرماح ، ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط ، فاختلفت أحوالهم في الإقدام على إمساكه ، فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه . فنزلت هذه الآية اهـ . فلعل هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقا ، لتكون تذكرة لهم في عام حجة الوداع ليحذروا مثل ما حل بهم يوم الحديبية . وكانوا [ ص: 38 ] في حجة الوداع أحوج إلى التحذير والبيان ، لكثرة عدد المسلمين عام حجة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب ، فذلك يبين معنى قوله تناله أيديكم ورماحكم لإشعار قوله ( تناله ) بأن ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ .
والخطاب للمؤمنين ، وهو مجمل بينه قوله عقبه يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . قال : اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين : أحدهما أنهم المحلون ، قاله أبو بكر بن العربي مالك; الثاني أنهم المحرمون ، قاله وغيره اهـ . وقال في القبس : توهم بعض الناس أن المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام ، وهذه عضلة ، إنما المراد به الابتلاء في حالتي الحل والحرمة اهـ . ابن عباس
ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج . قال ابن العربي في الأحكام : إن قوله ليبلونكم الذي يقتضي أن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد . والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في القلة والكثرة وتباين في الضعف والشدة . يريد أن قوله ليبلونكم الله بشيء من الصيد لا يراد به الإصابة ببلوى ، أي مصيبة قتل الصيد المحرم بل يراد ليكلفنكم الله ببعض أحوال الصيد . وهذا ينظر إلى أن قوله تعالى وأنتم حرم شامل لحالة الإحرام والحلول في الحرم .
وقوله ليبلونكم الله بشيء من الصيد هو ابتلاء تكليف ونهي ، كما دل عليه تعلقه بأمر مما يفعل ، فهو ليس كالابتلاء في قوله ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع وإنما أخبرهم بهذا على وجه التحذير . فالخبر مستعمل في معناه ولازم معناه ، وهو التحذير . ويتعين أن يكون هذا الخطاب وجه إليهم في حين ترددهم بين إمساك الصيد وأكله ، وبين مراعاة حرمة الإحرام ، إذ كانوا محرمين بعمرة في الحديبية وقد ترددوا فيما يفعلون ، أي [ ص: 39 ] أن ما كان عليه الناس من حرمة إصابة الصيد للمحرم معتد به في الإسلام أو غير معتد به . فالابتلاء مستقبل لأنه لا يتحقق معنى الابتلاء إلا من بعد النهي والتحذير . ووجود نون التوكيد يعين المضارع للاستقبال ، فالمستقبل هو الابتلاء . وأما الصيد ونوال الأيدي والرماح فهو حاضر .
والصيد : المصيد ، لأن قوله من الصيد وقع بيانا لقوله بشيء . ويغني عن الكلام فيه وفي لفظ بشيء ما تقدم من الكلام على نظيره في قوله تعالى ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع في سورة البقرة .
وتنكير شيء هنا للتنويع لا للتحقير ، خلافا ومن تابعه . للزمخشري
وأشار بقوله تناله أيديكم ورماحكم إلى أنواع الصيد صغيره وكبيره . فقد كانوا يمسكون الفراخ بأيديهم وما هو وسيلة إلى الإمساك بالأيدي من شباك وحبالات وجوارح ، لأن جميع ذلك يئول إلى الإمساك باليد . وكانوا يعدون وراء الكبار بالخيل والرماح كما يفعلون بالحمر الوحشية وبقر الوحش ، كما في حديث أبي قتادة أنه : رأى عام الحديبية حمارا وحشيا ، وهو غير محرم ، فاستوى على فرسه وأخذ رمحه وشد وراء الحمار فأدركه فعقره برمحه وأتى به . . إلخ . وربما كانوا يصيدون برمي النبال عن قسيهم ، كما في حديث الموطأ زيد البهزي أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة فإذا ظبي حاقف فيه سهم . الحديث . فقد كان بعض الصائدين يختبئ في قترة ويمسك قوسه فإذا مر به الصيد رماه بسهم . قال عن ابن عطية : وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد .
وقد يقال : حذف ما هو بغير الأيدي وبغير الرماح للاستغناء بالطرفين عن الأوساط .
وجملة تناله أيديكم صفة للصيد أو حال منه . والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلا يتوهم أن التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه .
[ ص: 40 ] وقوله ليعلم الله من يخافه بالغيب علة لقوله ليبلونكم لأن الابتلاء اختبار ، فعلته أن يعلم الله منه من يخافه . وجعل علم الله علة للابتلاء إنما هو على معنى ليظهر للناس من يخاف الله من كل من علم الله أنه يخافه ، فأطلق علم الله على لازمه ، وهو ظهور ذلك وتميزه ، لأن علم الله يلازمه التحقق في الخارج إذ لا يكون علم الله إلا موافقا لما في نفس الأمر ، كما بيناه غير مرة; أو أريد بقوله ليعلم الله التعلق التنجيزي لعلم الله بفعل بعض المكلفين ، بناء على إثبات تعلق تنجيزي لصفة العلم ، وهو التحقيق الذي انفصل عليه عبد الحكيم في الرسالة الخاقانية .
وقيل : أطلق العلم على تعلقه بالمعلوم في الخارج . ويلزم أن يكون مراد هذا القائل أن هذا الإطلاق قصد منه التقريب لعموم أفهام المخاطبين . وقال ابن العربي في القبس : ليعلم الله مشاهدة ما علمه غيبا من امتثال من امتثل واعتداء من اعتدى ، فإنه عالم الغيب والشهادة يعلم الغيب أولا ، ثم يخلق المعدوم فيعلمه مشاهدة ، يتغير المعلوم ولا يتغير العلم .
والباء إما للملابسة أو للظرفية ، وهي في موضع الحال من الضمير المرفوع في يخافه .
والغيب ضد الحضور وضد المشاهدة ، وقد تقدم في قوله تعالى الذين يؤمنون بالغيب على أحد وجهين هنالك ، فتعلق المجرور هنا بقوله يخافه الأظهر أنه تعلق لمجرد الكشف دون إرادة تقييد أو احتراز ، كقوله تعالى ويقتلون النبيئين بغير حق . أي من يخاف الله وهو غائب عن الله ، أي غير مشاهد له . وجميع مخافة الناس من الله في الدنيا هي مخافة بالغيب . قال تعالى إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير .
وفائدة ذكره أنه ثناء على الذين يخافون الله أثنى عليهم بصدق الإيمان وتنور البصيرة ، فإنهم خافوه ولم يروا عظمته وجلاله ونعيمه وثوابه ، ولكنهم أيقنوا بذلك عن صدق استدلال . وقد أشار إلى هذا ما في الحديث القدسي : " إنهم آمنوا بي ولم يروني [ ص: 41 ] فكيف لو رأوني " . ومن المفسرين من فسر الغيب بالدنيا . وقال ابن عطية : الظاهر أن المعنى بالغيب عن الناس ، أي في الخلوة . فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه ، يعني أن المجرور للتقييد ، أي من يخاف الله وهو غائب عن أعين الناس الذين يتقى إنكارهم عليه أو صدهم إياه وأخذهم على يده أو التسميع به ، وهذا ينظر إلى ما بنوا عليه أن الآية نزلت في صيد غشيهم في سفرهم عام الحديبية يغشاهم في رحالهم وخيامهم ، أي كانوا متمكنين من أخذه بدون رقيب ، أو يكون الصيد المحذر من صيده مماثلا لذلك الصيد .
وقوله فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم تصريح بالتحذير الذي أومأ إليه بقوله ليبلونكم ، إذ قد أشعر قوله ليبلونكم أن في هذا الخبر تحذيرا من عمل قد تسبق النفس إليه .
والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من ليبلونكم ، أي بعدما قدمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه ، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع . والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد ، وسماه اعتداء لأنه إقدام على محرم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم .
وقوله فله عذاب أليم ، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما ، وبما خالف إنذار الله تعالى ، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة ، فالتوبة معلومة من أصول الإسلام ، والكفارة هي جزاء الصيد ; لأن الظاهر أن الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي . روى عن ابن أبي حاتم : العذاب الأليم أنه يوسع بطنه وظهره جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك به في الجاهلية . فالعذاب هو الأذى الدنيوي ، وهو يقتضي أن هذه الآية قررت ما كان يفعله أهل الجاهلية ، فتكون الآية الموالية لها نسخا لها . ولم يقل بهذا العقاب أحد من فقهاء الإسلام فدل ذلك على أنه أبطل بما في الآية الموالية ، وهذا هو الذي يلتئم به معنى الآية مع معنى التي تليها . ويجوز أن يكون الجزاء من قبيل ضمان المتلفات ويبقى إثم الاعتداء فهو موجب العذاب الأليم . فعلى التفسير المشهور لا يسقطه إلا التوبة ، وعلى ما نقل عن ابن عباس يبقى الضرب تأديبا ، ولكن هذا لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام ، والظاهر أن سلبه كان يأخذه فقراء ابن عباس مكة مثل جلال البدن ونعالها .