[ ص: 65 ] عفا الله عنها والله غفور حليم يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين .
استئناف ابتدائي للنهي عن العودة إلى مسائل سألها بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست في شئون الدين ولكنها في شئون ذاتية خاصة بهم ، فنهوا أن يشغلوا الرسول بمثالها بعد أن قدم لهم بيان مهمة الرسول بقوله تعالى ما على الرسول إلا البلاغ الصالح لأن يكون مقدمة لمضمون هذه الآية ولمضمون الآية السابقة ، وهي قوله قل لا يستوي الخبيث والطيب فالآيتان كلتاهما مرتبطتان بآية ما على الرسول إلا البلاغ ، وليست إحدى هاتين الآيتين بمرتبطة بالأخرى .
وقد اختلفت الروايات في بيان نوع هذه الأشياء المسئول عنها والصحيح من ذلك حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه في الصحيحين قال : حذافة ، أي فدعاه لأبيه الذي يعرف به ، والسائل هو سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فصعد المنبر ذات يوم فقال : لا تسألونني عن شيء إلا بينت لكم ، فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قال : أبوك كما ورد في بعض روايات الحديث . وفي رواية عبد الله بن حذافة السهمي ، لمسلم عن أبي موسى : سالم مولى شيبة . وفي بعض روايات هذا الخبر في غير الصحيح عن فقام رجل آخر فقال من أبي ، قال : أبوك أبي هريرة . أن رجلا آخر قام فقال : أين أبي . وفي رواية : أين أنا ؟ فقال : في النار
وفي صحيح عن البخاري قال : ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا [ ص: 66 ] عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . قال الأيمة : وقد انفرد به كان قوم ، أي من المنافقين ، يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ، ويقول الرجل : من أبي ، ويقول المسافر : ماذا ألقى في سفري فأنزل الله فيهم هذه الآية . ومحمله أنه رأي من البخاري وهو لا يناسب افتتاح الآية بخطاب الذين آمنوا اللهم إلا أن يكون المراد تحذير المؤمنين من نحو تلك المسائل عن غفلة من مقاصد المستهزئين ، كما في قوله ابن عباس ، يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ، أو أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان ، على أن لهجة الخطاب في الآية خالية عن الإيماء إلى قصد المستهزئين ، بخلاف قوله : لا تقولوا راعنا فقد عقب بقوله وللكافرين عذاب أليم .
وروى الترمذي عن والدارقطني علي بن أبي طالب ولله على الناس حج البيت قالوا : يا رسول الله في كل عام ، فسكت ، فأعادوا . فقال : لا ، ولو قلت : نعم لوجبت ، فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال : هذا حديث حسن غريب . وروى لما نزلت قريبا منه عن الطبري أبي أمامة وعن . وتأويل هذه الأسانيد أن الآية تليت عند وقوع هذا السؤال وإنما كان نزولها قبل حدوثه فظنها الراوون نزلت حينئذ . وتأويل المعنى على هذا أن الأمة تكون في سعة إذا لم يشرع لها حكم ، فيكون الناس في سعة الاجتهاد عند نزول الحادثة بهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا سألوا وأجيبوا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم تعين عليهم العمل بما أجيبوا به . وقد تختلف الأحوال والأعصار فيكونون في حرج إن راموا تغييره ; فيكون معنى ابن عباس إن تبد لكم تسؤكم على هذا الوجه أنها تسوء بعضهم أو تسوءهم في بعض الأحوال إذا شقت عليهم . وروى مجاهد عن : نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وقال مثله ابن عباس سعيد بن جبير والحسن .
وقوله ( أشياء ) تكثير شيء ، والشيء هو الموجود ، فيصدق بالذات وبحال الذات ، وقد سألوا عن أحوال بعض المجهولات أو الضوال أو عن أحكام بعض الأشياء .
و ( أشياء ) كلمة تدل على جمع شيء ، والظاهر أنه صيغة جمع لأن زنة شيء ( فعل ) ، و ( فعل ) إذا كان معتل العين قياس جمعه ( أفعال ) مثل بيت وشيخ . فالجاري على متعارف [ ص: 67 ] التصريف أن يكون أشياء جمعا وأن همزته الأولى همزة مزيدة للجمع . إلا أن ( أشياء ) ورد في القرآن هنا ممنوعا من الصرف ، فتردد أئمة اللغة في تأويل ذلك ، وأمثل أقوالهم في ذلك قول : إنه لما كثر استعماله في الكلام أشبه ( فعلاء ) ، فمنعوه من الصرف لهذا الشبه ، كما منعوا سراويل من الصرف وهو مفرد لأنه شابه صيغة الجمع مثل مصابيح . الكسائي
وقال الخليل : أشياء اسم جمع ( شيء ) وليس جمعا ، فهو مثل طرفاء وحلفاء فأصله شيئاء ، فالمدة في آخره مدة تأنيث ، فلذلك منع من الصرف ، وادعى أنهم صيروه أشياء بقلب مكاني . وحقه أن يقال : شيئاء بوزن فعلاء فصار بوزن ( لفعاء ) . وسيبويه
وقوله ( إن تبد لكم تسؤكم ) صفة ( أشياء ) ، أي إن تظهر لكم وقد أخفيت عنكم يكن في إظهارها ما يسوءكم ، ولما كانت الأشياء المسئول عنها منها ما إذا ظهر ساء من سأل عنه ومنها ما ليس كذلك ، وكانت قبل إظهارها غير متميزة كان السؤال عن مجموعها معرضا للجواب بما بعضه يسوء ، فلما كان هذا البعض غير معين للسائلين كان سؤالهم عنها سؤالا عن ما إذا ظهر يسوءهم ، فإنهم سألوا في موطن واحد أسئلة منها : ما سرهم جوابه ، وهو سؤال عن أبيه فأجيب بالذي يصدق نسبه ، ومنها ما ساءهم جوابه ، وهو سؤال من سأل أين أبي ، أو أين أنا فقيل : له في النار ، فهذا يسوءه لا محالة . فتبين بهذا أن قوله إن تبد لكم تسؤكم روعي فيه النهي عن المجموع لكراهية بعض ذلك المجموع . والمقصود من هذا استئناسهم للإعراض عن نحو هذه المسائل ، وإلا فإن النهي غير مقيد بحال ما يسوءهم جوابه ، بدليل قوله بعده عبد الله بن حذافة عفا الله عنها . لأن العفو لا يكون إلا عن ذنب وبذلك تعلم أنه لا مفهوم للصفة هنا لتعذر تمييز ما يسوء عما لا يسوء .
وجملة وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عطف على جملة لا تسألوا ، وهي تفيد إباحة السؤال عنها على الجملة لقوله وإن تسألوا فجعلهم مخيرين في السؤال عن أمثالها ، وأن ترك السؤال هو الأولى لهم ، فالانتقال إلى الإذن رخصة وتوسعة ، وجاء بـ ( إن ) للدلالة على أن الأولى ترك السؤال عنها لأن الأصل في ( إن ) أن تدل على أن الشرط نادر الوقوع أو مرغوب عن وقوعه .
[ ص: 68 ] وقوله ( حين ينزل القرآن ) ظرف . يجوز تعلقه بفعل الشرط وهو ( تسألوا ) ، ويجوز تعلقه بفعل الجواب وهو ( تبد لكم ) ، وهو أظهر إذ الظاهر أن حين نزول القرآن لم يجعل وقتا لإلقاء الأسئلة بل جعل وقتا للجواب عن الأسئلة . وتقديمه على عامله للاهتمام ، والمعنى أنهم لا ينتظرون الجواب عما يسألون عنه إلا بعد نزول القرآن ، لقوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب إلى قوله إن أتبع إلا ما يوحى إلي فنبههم الله بهذا على أن النبيء يتلقى الوحي من علام الغيوب . فمن سأل عن شيء فلينتظر الجواب بعد نزول القرآن ، ومن سأل عند نزول القرآن حصل جوابه عقب سؤاله . ووقت نزول القرآن يعرفه من يحضر منهم مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم فإن له حالة خاصة تعتري الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفها الناس ، كما ورد في حديث في حكم العمرة . ومما يدل لهذا ما وقع في حديث يعلى بن أمية أنس من رواية في صحيح ابن شهاب مسلم . الحديث ، فدل ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك الحين في حال نزول وحي عليه . وقد جاء في رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى لهم صلاة الظهر فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أن قبلها أمورا عظاما ثم قال : من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه فوالله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا . ثم قال : لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر موسى بن أنس عن أبيه أنس أنه أنزل عليه حينئذ قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء الآية . فتلك لا محالة ساعة نزول القرآن واتصال الرسول عليه الصلاة والسلام بعالم الوحي .
وقوله عفا الله عنها يحتمل أنه تقرير لمضمون قوله وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ، أي أن الله نهاكم عن المسألة وعفا عنكم أن تسألوا حين ينزل القرآن . وهذا أظهر لعود الضمير إلى أقرب مذكور باعتبار تقييده حين ينزل القرآن . ويحتمل أن يكون إخبارا عن عفوه عما سلف من إكثار المسائل وإحفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها لأن ذلك لا يناسب ما يجب من توقيره .
[ ص: 69 ] وقوله قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن ، أن يقول سائل : إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأن بعض الأسئلة يسوء جوابه قوما ، فهل الأولى ترك السؤال أو إلقاؤه . فأجيب بتفصيل أمرها بأن أمثالها قد كانت سببا في كفر قوم قبل المسلمين .
وضمير ( سألها ) جوز أن يكون عائدا إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دل عليه فعل تسألوا ، أي سأل المسألة ، فيكون الضمير منصوبا على المفعولية المطلقة . وجرى جمهور المفسرين على تقدير مضاف ، أي سأل أمثالها . والمماثلة في ضآلة الجدوى . والأحسن عندي أن يكون ضمير ( سألها ) عائدا إلى أشياء ، أي إلى لفظه دون مدلوله . فالتقدير : قد سأل أشياء قوم من قبلكم ، وعدي فعل ( سأل ) إلى الضمير على حذف حرف الجر ، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحق من الاستخدام ، فإن أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله ، نحو قولك : لك درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه . والاستخدام أشد من ذلك لأنه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر .
و ( ثم ) في قوله ثم أصبحوا بها كافرين للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصور المتكلم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها ، فتدل على أن الجملة المعطوفة لم يكن يترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم . وقد مرت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم في سورة البقرة .
والباء في قوله بها يجوز أن تكون للسببية ، فتتعلق بـ أصبحوا ، أي كانت تلك المسائل سببا في كفرهم ، أي باعتبار ما حصل من جوابها ، ويحتمل أن تكون للتعدية فتتعلق بـ كافرين ، أي كفروا بها ، أي بجوابها بأن لم يصدقوا رسلهم فيما أجابوا به ، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص ، أي ما كفروا إلا بسببها ، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل ، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه ، فهو تخصيص ادعائي ، أو هو تقديم لمجرد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها .
[ ص: 70 ] وفعل أصبحوا مستعمل بمعنى صاروا ، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريث فيه لأن الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال .
والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام ، سألوا مثل هذه المسائل ، فلما أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا ، مثل ثمود ، سألوا صالحا آية ، فلما أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها ، وهذا شأن أهل الضلالة متابعة الهوى ، فكلما يأتيهم مما لا يوافق أهواءهم كذبوا به ، كما قال الله تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ، وكما وقع لليهود في خبر إسلام . وقريب مما في هذه الآية ما قدمناه عند تفسير قوله تعالى عبد الله بن سلام قل من كان عدوا لجبريل في سورة البقرة . فإن اليهود أبغضوا جبريل لأنه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم ، وتعطيل بيت القدس ، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال . وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى ، وكانا مقدسين عند اليهود ، فلما شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلهما كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متى والإصحاح الثالث من مرقس .
والمقصود من هذا ذم أمثال هذه المسائل بأنها لا تخلو من أن تكون سببا في غم النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يكره ممن يحبه . ولولا أن إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قوم من قبلهم لكانت هذه المسائل محرمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر .
فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها ، فالحمد لله الذي من باستضوائها .