ثم الذين كفروا بربهم يعدلون .
عطفت جملة ثم الذين كفروا بربهم يعدلون على جملة الحمد لله الذي خلق السماوات . فـ ثم للتراخي الرتبي الدال على أن ما بعدها يتضمن معنى من نوع ما قبله ، وهو أهم في بابه . وذلك شأن ( ثم ) إذا وردت عاطفة جملة على أخرى ، فإن عدول المشركين عن عبادة الله مع علمهم بأنه خالق الأشياء أمر غريب فيهم أعجب من علمهم بذلك .
والحجة ناهضة على الذين كفروا لأن جميعهم عدا المانوية يعترفون بأن الله هو الخالق والمدبر للكون ، ولذلك قال الله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون .
والخبر مستعمل في التعجيب على وجه الكناية بقرينة موقع ثم ودلالة المضارع على التجدد ، فالتعجيب من شأن المشركين ظاهر وأما المانوية فالتعجيب من شأنهم في أنهم لم يهتدوا إلى الخالق وعبدوا بعض مخلوقاته . فالمراد بـ الذين كفروا كل من كفر بإثبات إله غير الله تعالى سواء في ذلك من جعل له شريكا مثل مشركي العرب والصابئة ومن خص غير الله بالإلهية كالمانوية . وهذا المراد دلت عليه القرينة وإن كان غالب عرف القرآن إطلاق الذين كفروا على المشركين .
ومعنى يعدلون يسوون . والعدل : التسوية . تقول : عدلت فلانا بفلان ، إذا سويته به ، كما تقدم في قوله : أو عدل ذلك صياما ، فقوله : بربهم متعلق بـ يعدلون ولا يصح تعليقه بـ الذين كفروا لعدم الحاجة إلى ذلك .
وحذف مفعول يعدلون ، أي يعدلون بربهم غيره وقد علم كل فريق ماذا عدل بالله . والمراد يعدلونه بالله في الإلهية ، وإن كان بعضهم يعترف بأن الله أعظم كما كان [ ص: 129 ] مشركو العرب يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وكما قالت الصابئة في الأرواح ، والنصارى في الابن والروح القدس .
ومعنى التعجيب عام في أحوال الذين ادعوا الإلهية لغير الله تعالى سواء فيهم من كان أهلا للاستدلال والنظر في خلق السماوات والأرض ومن لم يكن أهلا لذلك ، لأن محل التعجيب أنه يخلقهم ويخلق معبوداتهم فلا يهتدون إليه بل ويختلقون إلهية غيره . ومعلوم أن التعجيب من شأنهم متفاوت على حسب تفاوت كفرهم وضلالهم .