عطفت الواو على قصة خلق السماوات والأرض انتقالا بهم في الاستدلال على أن الله واحد وعلى بطلان شركهم وتخلصا من ذكر خلق السماوات والأرض إلى خلق النوع الذي هو سلطان الأرض والمتصرف في أحوالها ، ليجمع بين تعدد الأدلة وبين مختلف تكوين العوالم وأصلها ليعلم المسلمون ما علمه أهل الكتاب من العلم الذي كانوا يباهون به العرب وهو ما في سفر التكوين من التوراة . قصة خلق أول البشر
واعلم أن آدم على الوحدانية هو أن خلق أصل النوع أمر مدرك بالضرورة لأن كل إنسان إذا لفت ذهنه إلى وجوده علم أنه وجود مسبوق بوجود أصل له بما يشاهد من نشأة الأبناء عن الآباء ، فيوقن أن لهذا النوع أصلا أول ينتهي إليه نشوءه ، وإذ قد كانت العبرة بخلق ما في الأرض جميعا أدمجت فيها منة وهي قوله لكم المقتضية أن خلق ما في الأرض لأجلهم تهيأت أنفسهم لسماع قصة إيجاد منشأ الناس الذين خلقت الأرض لأجلهم ليحاط بما في ذلك من دلائل القدرة مع عظيم المنة وهي منة الخلق التي نشأت عنها فضائل جمة ومنة التفضيل ومنة خلافة الله في الأرض ، فكان خلق أصلنا هو أبدع مظاهر إحيائنا الذي هو الأصل في خلق ما في الأرض لنا ، فكانت المناسبة في الانتقال إلى التذكير به واضحة مع حسن التخلص إلى ذكره خبره العجيب ، فإيراد واو العطف هنا لأجل إظهار استقلال هذه القصة في حد ذاتها في عظم شأنها . موقع الدليل بخلق
[ ص: 396 ] و ( إذ ) من أسماء الزمان المبهمة تدل على زمان نسبة ماضية وقعت فيه نسبة أخرى ماضية قارنتها ، فـ ( إذ ) تحتاج إلى جملتين : جملة أصلية - وهي الدالة على المظروف ، وتلك هي التي تكون مع جميع الظروف - وجملة تبين الظرف ما هو ، لأن ( إذ ) لما كانت مبهمة احتاجت لما يبين زمانها عن بقية الأزمنة ، فلذلك لزمت إضافتها إلى الجمل أبدا ، والأكثر في الكلام أن تكون " إذ " في محل ظرف لزمن الفعل فتكون في محل نصب على المفعول فيه ، وقد تخرج ( إذ ) عن النصب على الظرفية إلى المفعولية كأسماء الزمان المتصرفة على ما ذهب إليه صاحب الكشاف وهو مختار ابن هشام خلافا لظاهر كلام الجمهور ، فهي تصير ظرفا مبهما متصرفا ، وقد يضاف إليها اسم زمان نحو يومئذ وساعتئذ فتجر بإضافة صورية ليكون ذكرها وسيلة إلى حذف الجملة المضافة هي إليها ، وذلك أن ( إذ ) ملازمة للإضافة ، فإذا حذفت جملتها علم السامع أن هنالك حذفا ، فإذا أرادوا أن يحذفوا جملة مع اسم زمان غير ( إذ ) خافوا أن لا يهتدي السامع لشيء محذوف حتى يتطلب دليله فجعلوا " إذ " قرينة على إضافة ، وحذفوا الجملة لينبهوا السامع فيتطلب دليل المحذوف .
وهي في هذه الآية يجوز أن تكون ظرفا وكذلك أعربها الجمهور وجعلوها متعلقة بقوله قالوا وهو يفضي إلى أن يكون المقصود من القصة قول الملائكة ، وذلك بعيد لأن المقصود من العبرة هو خطاب الله لهم وهو مبدأ العبرة وما تضمنته من تشريف آدم وتعليمه بعد الامتنان بإيجاد أصل نوع الناس الذي هو مناط العبرة من قوله كيف تكفرون الآيات ، ولأنه لا يتأتى في نظيرها وهو قوله الآتي وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إذ وجود فاء التعقيب يمنع من جعل الظرف متعلقا بمدخولها ، ولأن الأظهر أن قوله ( قالوا ) حكاية للمراجعة والمحاورة على طريقة أمثاله كما سنحققه . فالذي ينساق إليه أسلوب النظم فيه أن يكون العطف على جملة خلق لكم ما في الأرض جميعا أي خلق لكم ما في الأرض وقال للملائكة إني خالق أصل الإنسان لما قدمناه من أن ذكر خلق ما في الأرض وكونه لأجلنا يهيئ السامع لترقب ذكر شأننا بعد ذكر شأن ما خلق لأجلنا من سماء وأرض ، وتكون ( إذ ) على هذا مزيدة للتأكيد . قاله وأنشد قول أبو عبيدة معمر بن المثنى الأسود بن يعفر : فإذ وذلك لا مهاه لذكره والدهر يعقب صالحا بفساد [ ص: 397 ] هكذا رواه " فإذ " على أن يكون في البيت زحاف الطي ، وفي رواية " فإذا " فلا زحاف ، والمهاه بهاءين الحسن ، ولا يشكل عليه أن شأن الزيادة أن تكون في الحروف لأن إذ وإذا ونحوهما عوملت معاملة الحروف ، أو أن يكون عطف القصة على القصة ويؤيده أنها تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى ، ألا ترى أنها ذكرت أيضا في قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ولم تذكر فيما بينهما ، وتكون ( إذ ) اسم زمان مفعولا به بتقدير اذكر ، ونظيره كثير في القرآن ، والمقصود من تعليق الذكر والقصة بالزمان إنما هو ما حصل في ذلك الزمان من الأحوال . وتخصيص اسم الزمان دون اسم المكان لأن الناس تعارفوا إسناد الحوادث التاريخية والقصص إلى أزمان وقوعها .
، فيحتمل أنه كلام سمعوه ، فإطلاق القول عليه حقيقة وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة ، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة ، فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء ، والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبيء صلى الله عليه وسلم " وكلام الله تعالى للملائكة أطلق على ما يفهمون منه إرادته وهو المعبر عنه بالكلام النفسي " . وقوله تعالى ( اشتكت النار إلى ربها فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) . وقول أبي النجم
إذ قالت الآطال للبطن الحق
ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين .والملائكة جمع ملك ، وأصل صيغة الجمع " ملائك " والتاء لتأكيد الجمعية لما في التاء من الإيذان بمعنى الجماعة ، والظاهر أن تأنيث ملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصرين منهم إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله ، واعتقده العرب أيضا ، قال تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه فملائك جمع ملأك كشمائل وشمأل ، ومما يدل عليه أيضا قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره .
ولست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل للتشكل في كيفيات ولأن أجزاءه لا تتزاحم ، ونورها لا شعاع له فلذلك لا تضيء إذا اتصلت بالعالم الأرضي ، وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يظهر بعضهم لبعض رسله وأنبيائه على وجه خرق العادة . والملائكة مخلوقات نورانية
وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها فتتولى التدبير لها ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها وهي مضادة لتوجهات الشياطين ، فالخواطر الخيرية من توجهات الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية ، وبعكسها خواطر الشر .
والخليفة في الأصل الذي يخلف غيره أو يكون بدلا عنه في عمل يعمله ، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالعلامة . والمراد من الخليفة هنا إما المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملا يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي أي جاعل في الأرض مدبرا يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حالا في الأرض ولا عاملا فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات الأرض ، [ ص: 399 ] ولأن الله تعالى لم يترك عملا كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان ، وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبل بطائفة من المخلوقات يسمون الحن والبن بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول ، وبموحدة مكسورة ونون في الثاني . وقيل اسمهم الطم والرم بفتح أولهما ، وأحسبه من المزاعم ، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس ( هيان بن بيان ) إشارة إلى غير موجود أو غير معروف . ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان ، فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطم والرم ، وكان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى " التيتان " وأن " زفس " - وهو المشتري - كبير الأرباب في اعتقادهم - جلاهم من الأرض لفسادهم . وكل هذا ينافيه سياق الآية ، فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جعل الخليفة دليل على أن جعل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها ، فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوق مستقرا في المكان من قبل ، فالخليفة آدم ، وخلفيته قيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقين ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي ، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم . فكانت الآية من هذا الوجه إيماء إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك ، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والملك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، من جفاة الأعراب ودعاة الفتنة ، فالمناظرة مع أمثالهم سدى .
[ ص: 400 ] وللخليفة شروط محل بيانها كتب الفقه والكلام ، وستجيء مناسبتها في آيات آتية . والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ والأول أظهر ، فيكون المراد بالمخبر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتابا بحضرة جليس : إني مرسل كتابا إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان ، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم ، وعلى الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله ( جاعل ) للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتا لآدم ساعتئذ .
وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس ، وليكون كالاستشارة لهم تكريما لهم فيكون تعليما في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليسن الاستشارة في الأمور ، ولتنبيه الملائكة على ما دق وخفي من آدم كذا ذكر المفسرون . حكمة خلق
وعندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء ما ، تؤثر تآلفا بين ذلك الكائن وبين المقارن . ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعا لذوات مقام أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئا أي إنشاء ذات أن يقول له كن فيكون ، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات ، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قبول العلم من خصائص الإنسان آدم الأسماء عندما خلقه . علم
وهذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضا للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل ، ولهذا أيضا طلبت منا الشريعة تخير أكمل الحالات وأفضل الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب ، وتقدم هذا في الكلام على البسملة ، وسنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله تعالى وشاورهم في الأمر في سورة آل عمران .
[ ص: 401 ] وأسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبئ عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض ، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح ، وذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله " الحمد لله رب العالمين " ، ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبيء محمد صلى الله عليه وسلم مع تكريمه بشرف حضور المخاطبة .