ما كانوا به يستهزئون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم .
عطف على جملة وقالوا لولا أنزل عليه ملك لبيان تفننهم في المكابرة والعناد تصلبا في شركهم وإصرارا عليه ، فلا يتركون وسيلة من وسائل التنفير من قبول دعوة الإسلام إلا توسلوا بها . ومناسبة عطف هذا الكلام على قوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك [ ص: 147 ] أنهم كانوا في قولهم ذلك قاصدين التعجيز والاستهزاء معا ، لأنهم ما قالوه إلا عن يقين منهم أن ذلك لا يكون ، فابتدأ الرد عليهم بإبطال ظاهر كلامهم بقوله : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر . ثم ثنى بتهديدهم على ما أرادوه من الاستهزاء ، والمقصود مع ذلك تهديدهم بأنهم سيحيق بهم العذاب وأن ذلك سنة الله في كل أمة استهزأت برسول له .
فقوله : ولقد استهزئ برسل من قبلك يدل على جملة مطوية إيجازا ، تقديرها : واستهزءوا بك ولقد استهزأ أمم برسل من قبلك ، لأن قوله : من قبلك يؤذن بأنه قد استهزئ به هو أيضا وإلا لم تكن فائدة في وصف الرسل بأنهم من قبله لأن ذلك معلوم . وحذف فاعل الاستهزاء فبنى الفعل إلى المجهول لأن المقصود هنا هو ترتب أثر الاستهزاء لا تعيين المستهزئين .
واللام للقسم ، و ( قد ) للتحقيق ، وكلاهما يدل على تأكيد الخبر . والمقصود تأكيده باعتبار ما تفرع عنه ، وهو قوله : فحاق بالذين سخروا إلخ ، لأن حال المشركين حال من يتردد في أن سبب هلاك الأمم السالفة هو الاستهزاء بالرسل ، إذ لولا ترددهم في ذلك لأخذوا الحيطة لأنفسهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام الذي جاءهم فنظروا في دلائل صدقه وما أعرضوا ، ليستبرئوا لأنفسهم من عذاب متوقع ، أو نزلوا منزلة المتردد إن كانوا يعلمون ذلك لعدم جريهم على موجب علمهم . واستهزاؤهم له أفانين ، منها قولهم لولا أنزل عليه ملك .
ومعنى الاستهزاء تقدم عند قوله تعالى : إنما نحن مستهزئون في سورة البقرة . وهو مرادف للسخرية في كلام أئمة اللغة ، فذكر استهزئ أولا لأنه أشهر ، ولما أعيد عبر بسخروا ، ولما أعيد ثالث مرة رجع إلى فعل يستهزئون ، لأنه أخف من ( يسخرون ) . وهذا من بديع فصاحة القرآن المعجزة .
وسخروا بمعنى هزئوا ، ويتعدى إلى المفعول بـ ( من ) ، قيل : لا يتعدى بغيرها . وقيل : يتعدى بالباء . وكذا الخلاف في تعدية هزأ واستهزأ . والأصح أن كلا الفعلين يتعدى بحرف ( من ) والباء ، وأن الغالب في ( هزأ ) أن يتعدى بالباء ، وفي ( سخر ) أن يتعدى بـ ( من ) . وأصل مادة ( سخر ) مؤذن بأن الفاعل اتخذ المفعول مسخرا يتصرف فيه كيف شاء بدون حرمة لشدة قرب مادة ( سخر ) المخفف من مادة التسخير ، أي التطويع فكأنه حوله عن حق الحرمة الذاتية فاتخذ منه لنفسه سخرية .
[ ص: 148 ] وفعل حاق اختلف أئمة اللغة في معناه . فقال : هو بمعنى أحاط ، وتبعه الزجاج ، وفسره الزمخشري الفراء بمعنى عاد عليه . وقال الراغب : أصله حق ، أي بمعنى وجب ، فأبدل أحد حرفي التضعيف حرف علة تخفيفا ، كما قالوا تظنى في تظنن ، أي وكما قالوا : تقضى البازي ، بمعنى تقضض . والأظهر ما قاله . أبو إسحاق الزجاج
واختير فعل الإحاطة للدلالة على تمكن ذلك منهم وعدم إفلاته أحدا منهم .
وإنما جيء بالموصول في قوله : بالذين سخروا ولم يقل بالساخرين للإيماء إلى تعليل الحكم ، وهو قوله : فحاق .
و منهم يتعلق بـ سخروا ، والضمير المجرور عائد إلى الرسل ، لزيادة تقرير كون العقاب لأجلهم ترفيعا لشأنهم . و ( ما ) في قوله : ما كانوا به يستهزئون موصولة . والباء في به لتعدية فعل الاستهزاء . ووجود الباء مانع من جعل ( ما ) غير موصولة . وهو ما أطال التردد فيه الكاتبون .
والمراد بـ ما كانوا به يستهزئون ما أنذرهم الرسل به من سوء العاقبة وحلول العذاب بهم ، فحصل بذلك فائدة أخرى ، وهي أن المستهزئين كانوا يستهزئون بالرسل وخاصة بما ينذرونهم به من حلول العذاب إن استمروا على عدم التصديق بما جاءوا به . فاستهزاؤهم بما أنذروا به جعل ما أنذروا به كالشخص المهزوء به إذا جعلنا الباء للتعدية ، أو استهزاؤهم بالرسل بسبب ما أنذروهم به إذا جعلت الباء للسببية .
وتقديم الجار والمجرور على الفعل للرعاية على الفاصلة .