[ ص: 150 ] جملة قل لمن ما في السماوات والأرض تكرير في مقام الاستدلال ، فإن هذا الاستدلال تضمن استفهاما تقريريا ، والتقرير من مقتضيات التكرير ، لذلك لم تعطف الجملة . ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصودا به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبينه عند قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة في هذه السورة . والاستفهام مستعمل مجازا في التقرير . والتقرير هنا مراد به لازم معناه ، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يقتضي إلى إبطال معتقدهم الشرك ، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح ، والمقصود هو المعنى الكنائي .
ولكونه مرادا به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسئول محققا لا محيص عنه ، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة ، فلذلك لم ينتظر السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله لله تبكيتا لهم ، لأن الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجة مقدرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية . وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلم واحد . فهؤلاء القوم المقدر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقروا حقية الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجة . وهذا أسلوب متبع في القرآن ، فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا ، وكما في قوله تعالى : قل من رب السماوات والأرض قل الله ، وقوله : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى إلى قوله : قل الله ، وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوبا إليهم أنهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتب عليه من توبيخ ونحوه ، كقوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون إلى قوله : قل فأنى تسحرون .
وابتدئ بإبطال أعظم ضلالهم ، وهو ضلال الإشراك . وأدمج معه ضلال إنكارهم البعث المبتدأ به السورة بعد أن انتقل من ذلك إلى الإنذار الناشئ عن تكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولذلك لما كان دليل الوحدانية السالف دالا على خلق السماوات والأرض وأحوالها بالصراحة ، وعلى عبودية الموجودات التي تشملها بالالتزام - ذكر في هذه الآية تلك العبودية بالصراحة فقال : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله .
[ ص: 151 ] وقوله : لله خبر مبتدأ محذوف دل عليه ما في السماوات إلخ . ويقدر المبتدأ مؤخرا عن الخبر على وزان السؤال لأن المقصود إفادة الحصر .
واللام في قوله " لله " للملك ; دلت على عبودية الناس لله دون غيره ، وتستلزم أن العبد صائر إلى مالكه لا محالة ، وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحق الخلق . ولا سبب للعبودية أحق وأعظم من الخالقية ، ويستتبع هذا الاستدلال الإنذار بغضبه على من أشرك معه .
وهذا استدلال على المشركين بأن غير الله ليس أهلا للإلهية ، لأن غير الله لا يملك ما في السماوات وما في الأرض إذ ملك ذلك لخالق ذلك . وهو تمهيد لقوله بعده : ليجمعنكم إلى يوم القيامة ، لأن مالك الأشياء لا يهمل محاسبتها .
وجملة كتب على نفسه الرحمة معترضة ، وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله .
وفي هذا الاعتراض معان : أحدها أن ما بعده لما كان مشعرا بإنذار بوعيد قدم له التذكير بأنه رحيم بعبيده عساهم يتوبون ويقلعون عن عنادهم ، على نحو قوله تعالى : كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ، والشرك بالله أعظم سوءا وأشد تلبسا بجهالة .
والثاني أن الإخبار بأن لله ما في السماوات وما في الأرض يثير سؤال سائل عن عدم تعجيل أخذهم على شركهم بمن هم ملكه . فالكافر يقول : لو كان ما تقولون صدقا لعجل لنا العذاب ، والمؤمن يستبطئ تأخير عقابهم ، فكان قوله : كتب على نفسه الرحمة جوابا لكلا الفريقين بأنه تفضل بالرحمة ، فمنها رحمة كاملة : وهذه رحمته بعباده الصالحين ، ومنها رحمة موقتة وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضالين .
والثالث أن ما في قوله : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله من التمهيد لما في جملة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه من الوعيد والوعد .
ذكرت رحمة الله تعريضا ببشارة المؤمنين وبتهديد المشركين .
[ ص: 152 ] الرابع أن فيه إيماء إلى أن الله قد نجى أمة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذب به الأمم المكذبة رسلها من قبل ، وذلك ببركة النبيء محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذبيه قضاء عاجلا بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به ، كما رجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولذلك لما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم قال الله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم . وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجا ، وأيد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض . وإذ قد قدر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين ، لأن الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوته مكة من مشرك ومسلم ، ثم يحشرون على نياتهم ، كما ورد في الحديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنهلك وفينا الصالحون ، قال : نعم ، إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم أم سلمة . فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان . وقد لما قالت قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم فقال أعوذ بسبحات وجهك الكريم . استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه
ومعنى كتب تعلقت إرادته ، بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلقة تعلقا عاما مطردا بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصا بالنسبة إلى الأزمان والجهات . فلما كان ذلك مطردا شبهت إرادته بالإلزام ، فاستعير لها فعل كتب الذي هو حقيقة في الإيجاب ، والقرينة هي مقام الإلهية ، أو جعل ذلك على نفسه لأن أحدا لا يلزم نفسه بشيء إلا اختيارا وإلا فإن غيره يلزمه . والمقصود أن ذلك لا يتخلف كالأمر الواجب المكتوب ، فإنهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه ، كما قال الحارث بن حلزة :
واذكروا حلف ذي المجـاز وما قدم فيه العهود والكفلاء حذر الجور والتطاخـي وهل
ينقض ما في المهارق الأهواء
وفي الصحيحين من حديث قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة . لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي
وجملة ليجمعنكم إلى يوم القيامة واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبب من السبب ، فإنه لما أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفرق أجزاء الأجساد أو انعدامها .
ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد . والمراد بالجمع استقصاء متفرق جميع الناس أفرادا وأجزاء متفرقة . وتعديته بـ ( إلى ) لتضمينه معنى السوق . وقد تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه في سورة النساء .
وضمير الخطاب في قوله : ليجمعنكم مراد به خصوص المحجوجين من المشركين ، لأنهم المقصود من هذا القول من أوله ; فيكون نذارة لهم وتهديدا وجوابا عن أقل ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله : كتب على نفسه الرحمة كما تقدم .
وجملة الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون الأظهر عندي أنها متفرعة على جملة ليجمعنكم إلى يوم القيامة وأن الفاء من قوله : فهم لا يؤمنون للتفريع والسببية . وأصل التركيب : فأنتم لا تؤمنون لأنكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة ; فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم .
[ ص: 154 ] وجعل الذين خسروا أنفسهم خبر مبتدأ محذوف . والتقدير : أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون . ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم ، وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال الكشاف عن صحة ترتب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أن الأمر بالعكس . وقيل الذين خسروا أنفسهم مبتدأ ، وجملة فهم لا يؤمنون خبره ، وقرن بالفاء لأن الموصول تضمن معنى الشرط على نحو قوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . وأشرب الوصول معنى الشرط ليفيد شموله كل من اتصف بمضمون الصلة ، ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزلة منزلة جملة الشرط ، فيفيد أن ذلك مستمر الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقق فيها معنى الصلة . فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز .
ومعنى خسروا أنفسهم أضاعوها كما يضيع التاجر رأس ماله ، فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع . فمعنى خسروا أنفسهم عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير ، فإنه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور . وذلك أنهم لما أعرضوا عن التدبر في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل ، فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر . فعدم الإيمان مسبب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع . ويتسبب على عدم الإيمان خسران آخر ، وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب ، وفي الآخرة بالنجاة من النار ، وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس . وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى : أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون .