كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا .
ارتقى في تمثيل حالهم لو فرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدق ، بقوله كالذي استهوته الشياطين في الأرض ، وهو تمثيل بهيئة متخيلة مبنية على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسوسين . فالكاف في موضع الحال من الضمير في نرد على أعقابنا ، أي حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكدة لما في نرد على أعقابنا من معنى التمثيل بالمرتد على أعقابه .
والاستهواء استفعال ، أي طلب هوى المرء ومحبته ، أي استجلاب هوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلب . وقربه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية . فقال : استهواه بمعنى أهواه مثل استزل بمعنى أزل . ووقع في الكشاف أنه استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها ، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمة اللغة ولم يذكره هو في الأساس مع كونه ذكر كالذي استهوته الشياطين ولم ينبه على هذا من جاء بعده .
والعرب يقولون : استهوته الشياطين ، إذا اختطفت الجن عقله فسيرته كما تريد . وذلك قريب من قولهم : سحرته ، وهم يعتقدون أن الغيلان هي سحرة الجن ، وتسمى السعالى أيضا ، واحدتها سعلاة ، ويقولون أيضا : استهامته الجن إذا طلبت هيامه بطاعتها .
وقوله في الأرض متعلق بـ استهوته ، لأنه يتضمن معنى ذهبت به وضل في الأرض . وذلك لأن الحالة التي تتوهمها العرب استهواء الجن يصاحبها التوحش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكبا رأسه لا ينتصح لأحد ، كما وقع لكثير من [ ص: 302 ] مجانينهم ومن يزعمون أن الجن اختطفتهم . ومن أشهرهم عمرو بن عدي الإيادي اللخمي ابن أخت جذيمة بن مالك ملك الحيرة . وجوز بعضهم أن يكون في الأرض متعلقا بـ حيران ، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول .
وحيران حال من الذي استهوته ، وهو وصف من الحيرة ، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل . يقال : حار يحار إذ تاه في الأرض فلم يعلم الطريق . وتطلق مجازا على التردد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه ، وانتصب حيران على الحال من الذي .
وجملة له أصحاب حال ثانية ، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجن . فجملة يدعونه صفة لـ " أصحاب " .
والدعاء : القول الدال على طلب عمل من المخاطب . والهدى : ضد الضلال . أي يدعونه إلى ما فيه هداه . وإيثار لفظ الهدى هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبهة . ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية كقوله تعالى فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم في سورة البقرة . ولذلك كان لتعقيبه بقوله قل إن هدى الله هو الهدى وقع بديع . وجوز في الكشاف أن يكون الهدى مستعارا للطريق المستقيم . وجملة ائتنا بيان لـ يدعونه إلى الهدى لأن الدعاء فيه معنى القول . فصح أن يبين بما يقولونه إذا دعوه ، ولكونها بيانا فصلت عن التي قبلها ، وإنما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكين التمثيل من ذهن السامع ، لأن المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يفهم منه أنه ضال ، لأن من خلق المجانين العناد والمكابرة . فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتهم في صحبته ومحبتهم إياه ، فيقولون : ائتنا ، حتى إذا تمكنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته .
وقد شبهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فرض ارتداده إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إياه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدونه عنه ، بحال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجن ، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلا عارفا بمسالكها ، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم ، وهذا التركيب البديع [ ص: 303 ] صالح للتفكيك بأن يشبه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبهة بها ، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون ، ويشبه الكفر بالهيام في الأرض ، ويشبه المشركون الذين دعوهم إلى الارتداد بالشياطين وتشبه دعوة الله الناس للإيمان ونزول الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى . وعلى هذا التفسير يكون الذي صادقا على غير معين ، فهو بمنزلة المعرف بلام الجنس . وروي عن أن الآية نزلت في ابن عباس حين كان كافرا وكان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وقد أسلم في صلح عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق الحديبية وحسن إسلامه .