قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع .
هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفس واحدة كما هو معلوم لهم ، فالذي أنشأ الناس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره مما أشركوا به ، والنظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات . قال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون .
والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين ، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غير من خلقهم على نحو ما قررته في الآية قبل هذه .
والإنشاء : الإحداث والإيجاد . والضمير المنصوب مراد به البشر كلهم . والنفس الواحدة هي آدم عليه السلام .
وقوله فمستقر الفاء للتفريع عن أنشأكم ، وهو تفريع المشتمل عليه المقارن على المشتمل . وقرأه الجمهور مستقر بفتح القاف وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وروح عن يعقوب بكسر القاف . فعلى قراءة فتح القاف يكون مصدرا ميميا ، و مستودع كذلك ، ورفعهما على أنه مبتدأ حذف خبره ، [ ص: 396 ] تقديره : لكم أو منكم ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فأنتم مستقر ومستودع . والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به ، أي فتفرع عن إنشائكم استقرار واستيداع ، أي لكم .
وعلى قراءة كسر القاف يكون المستقر اسم فاعل . والمستودع اسم مفعول من استودعه بمعنى أودعه ، أي فمستقر منكم أقررناه فهو مستقر ، ومستودع منكم ودعناه فهو مستودع . والاستقرار هو القرار ، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب . يقال : استقر في المكان بمعنى قر . وتقدم عند قوله تعالى لكل نبأ مستقر في هذه السورة .
والاستيداع : طلب الترك ، وأصله مشتق من الودع ، وهو الترك على أن يسترجع المستودع . يقال : استودعه مالا إذا جعله عنده وديعة ، فالاستيداع مؤذن بوضع موقت ، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل .
وقد اختلف المفسرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتفاقهم على انهما متقابلان . فعن المستقر الكون فوق الأرض ، والمستودع الكون في القبر . وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيها لهم بأن حياة الناس في الدنيا يعقبها الوضع في القبور وأن ذلك الوضع استيداع موقت إلى البعث الذي هو الحياة الأولى ردا على الذين أنكروا البعث . ابن مسعود :
وعن ابن عباس : المستقر في الرحم والمستودع في صلب الرجل ، ونقل هذا عن أيضا ، وقاله ابن مسعود مجاهد والضحاك وعطاء وفسر به وإبراهيم النخعي ، . قال الزجاج الفخر : ومما يدل على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا ، والجنين يبقى في رحم الأم زمانا طويلا . وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصدر أعرضنا عن التطويل بها . وقال : إن الله لم يخصص معنى دون غيره ، ولا شك أن من بني الطبري آدم مستقرا في الرحم ومستودعا في الصلب ، ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرجال ، ومنهم مستقر في [ ص: 397 ] القبر مستودع على ظهر الأرض ، فكل مستقر أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله فمستقر ومستودع ا هـ .
وقال ابن عطية : الذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه ؛ لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى الدنيا ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى الحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار . وهو في كل رتبة بين هذين الظرفين مستقر بالإضافة إلى التي قبلها ومستودع بالإضافة إلى التي بعدها . ا هـ .
والأظهر أن لا يقيد الاستيداع بالقبور بل هو استيداع من وقت الإنشاء ، لأن المقصود التذكير بالحياة الثانية ، ولأن الأظهر أن الواو ليست للتقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع ، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودعها . وإيثار التعبير بهذين المصدرين ما كان إلا لإرادة توفير هذه الجملة .
وعلى قراءة كسر القاف هو اسم فاعل . و مستودع اسم مفعول ، والمعنى هو هو .
وقوله قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون تقرير لنظيره المتقدم ، مقصود به التذكير والإعذار .
وعدل عن ( يعلمون ) إلى يفقهون لأن دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبر ، فإن المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبر عن علمها بأنه فقه ، بخلاف دلالة النجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكررة ، وتعريضا بأن المشركين لا يعلمون ولا يفقهون ، فإن العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة ، [ ص: 398 ] والفقه هو إدراك الأشياء الدقيقة . فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين ، ولذلك قال بعد هذا إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون .