قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ .
هذا انتقال من محاجة المشركين ، وإثبات الوحدانية لله بالربوبية من قوله إن الله فالق الحب والنوى إلى قوله وهو اللطيف الخبير . فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاب للنبيء عليه الصلاة والسلام مقول لفعل أمر بالقول في أول الجملة ، حذف على الشائع من حذف القول للقرينة في قوله وما أنا عليكم بحفيظ . ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنه كالتوقيف والشرح والفذلكة للكلام السابق فيقدر : قل يا محمد قد جاءكم بصائر
وبصائر جمع بصيرة ; والبصيرة : العقل الذي تظهر به المعاني والحقائق ، كما أن البصر إدراك العين الذي تتجلى به الأجسام ، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها .
وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم ، شبه بمجيء شيء كان غائبا ، تنويها بشأن ما حصل عندهم بأنه كالشيء الغائب المتوقع مجيئه كقوله تعالى جاء الحق وزهق الباطل . وخلو فعل " جاء " عن علامة التأنيث مع أن فاعله جمع مؤنث ؛ لأن الفعل المسند إلى جمع تكسير مطلقا أو جمع مؤنث يجوز اقترانه بتاء التأنيث وخلوه عنها .
و " من " ابتدائية تتعلق بـ " جاء " أو صفة لـ " بصائر " ، وقد جعل خطاب الله بها [ ص: 419 ] بمنزلة ابتداء السير من جانبه تعالى ، وهو منزه عن المكان والزمان ، فالابتداء مجاز لغوي ، أو هو مجاز بالحذف بتقدير : من إرادة ربكم . والمقصود التنويه بهذه التعاليم والذكريات التي بها البصائر ، والحث على العمل بها ، لأنها مسداة إليهم ممن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ ، مع ما في ذكر الرب وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر .
ولذلك فرع عليه قوله فمن أبصر فلنفسه ، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضلال بعد هذه البصائر ، ولا فائدة لغيركم فيها ( فمن أبصر فلنفسه ) أبصر أي من علم الحق فقد علم علما ينفع نفسه ، ومن عمي أي ضل عن الحق فقد ضل ضلالا وزره على نفسه .
فاستعير الإبصار في قوله " أبصر " للعلم بالحق والعمل به ؛ لأن المهتدي بهذا الهدي الوارد من الله بمنزلة الذي نور له الطريق بالبدر أو غيره ، فأبصره وسار فيه ، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون أبصر تمثيلا موجزا ضمن فيه تشبيه هيئة المرشد إلى الحق إذا عمل بما أرشد به ، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره .
واستعير العمى في قوله عمي للمكابرة والاستمرار على الضلال بعد حصول ما شأنه أن يقلعه لأن المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهدي هاد خريت . ويجوز اعتبار التمثيلية فيه أيضا كاعتبارها في ضده السابق .
واستعمل " اللام " في الأول استعارة للنفع لدلالتها على الملك وإنما يملك الشيء النافع المدخر للنوائب ، واستعيرت ( على ) في الثاني للضر والتبعة ، لأن الشيء الضار ثقيل على صاحبه يكلفه تعبا وهو كالحمل الموضوع على ظهره ، وهذا معروف في الكلام البليغ . قال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ، وقال من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، [ ص: 420 ] وقال وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، ولأجل ذلك سمي الإثم وزرا كما تقدم في قوله تعالى وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ، وقد جاء اللام في موضع ( على ) في بعض الآيات ، كقوله تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها .
وفي الآية محسن جناس الاشتقاق بين البصائر وأبصر ، وملاحظة مناسبة في الإبصار والبصائر . وفيها محسن المطابقة بين قوله أبصر وعمي ، وبين ( اللام ) و ( على ) .
ويتعلق قوله لنفسه بمحذوف دل عليه فعل الشرط . وتقديره : فمن أبصر فلنفسه أبصر . واقترن الجواب بالفاء نظرا لصدره إذ كان اسما مجرورا وهو غير صالح لأن يلي أداة الشرط .
وإنما نسج نظم الآية على هذا النسج للإيذان بأن " لنفسه " مقدم في التقدير على متعلقه المحذوف . والتقدير : فلنفسه أبصر ، ولولا قصد الإيذان بهذا التقديم لقال : فمن أبصر أبصر لنفسه ، كما قال إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم والمقام يقتضي تقديم المعمول هنا ليفيد القصر ، أي فلنفسه أبصر لا لفائدة غيره ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم يغيظون النبيء صلى الله عليه وسلم بإعراضهم عن دعوته إياهم إلى الهدى ، وقرينة ذلك أن هذا الكلام مقول من النبيء صلى الله عليه وسلم وقد أومأ إلى هذا صاحب الكشاف ، بخلاف آية إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، فإنها حكت كلاما خوطب به بنو إسرائيل من جانب الله تعالى وهم لا يتوهمون أن إحسانهم ينفع الله أو إساءتهم تضر الله .
والكلام على قوله ومن عمي فعليها نظير الكلام على قوله فمن أبصر فلنفسه . وعدي فعل " عمي " بحرف ( على ) لأن العمى لما كان مجازا كان ضرا يقع على صاحبه .
وجملة وما أنا عليكم بحفيظ تكميل لما تضمنه قوله فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ، أي فلا ينالني من ذلك شيء ، فلا يرجع لي نفعكم ولا يعود علي ضركم ولا أنا وكيل على نفعكم وتجنب ضركم فلا تحسبوا أنكم حتى تمكرون بي بالإعراض عن الهدى والاستمرار في الضلال .
[ ص: 421 ] والحفيظ : الحارس ومن يجعل إليه نظر غيره وحفظه ، وهو بمنزلة الوكيل إلا أن الوكيل يكون مجعولا له الحفظ من جانب الشيء المحفوظ ، والحفيظ أعم لأنه يكون من جانبه ومن جانب مواليه . وهذا قريب من معنى قوله وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل .
والإتيان بالجملة الاسمية هنا دقيق ؛ لأن الحفيظ وصف لا يفيد غيره مفاده ، فلا يقوم مقامه فعل حفظ ، فالحفيظ صفة مشبهة يقدر لها فعل منقول إلى " فعل " بضم العين لم ينطق به مثل الرحيم .
ولا يفيد تقديم المسند إليه في الجملة الاسمية اختصاصا خلافا لما يوهمه ظاهر تفسير وإن كان العلامة الزمخشري التفتزاني مال إليه ، وسكت عنه السيد الجرجاني وهو وقوف مع الظاهر . وتقديم " عليكم " على " بحفيظ " للاهتمام ولرعاية الفاصلة .