[ ص: 8 ] يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا شياطين الإنس والجن
اعتراض قصد منه ، والواو واو الاعتراض ؛ لأن الجملة بمنزلة الفذلكة ، وتكون للرسول صلى الله عليه وسلم تسلية بعد ذكر ما يحزنه من أحوال كفار قومه ، وتصلبهم في نبذ دعوته ، فأنبأه الله : بأن هؤلاء أعداؤه ، وأن عداوة أمثالهم لمثله سنة من سنن الله تعالى في ابتلاء أنبيائه كلهم ، فما منهم أحد إلا كان له أعداء ، فلم تكن عداوة هؤلاء للنبيء عليه الصلاة والسلام بدعا من شأن الرسل ، فمعنى الكلام : ألست نبيئا وقد جعلنا لكل نبيء عدوا إلى آخره . تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم
والإشارة بقوله : وكذلك إلى الجعل المأخوذ من فعل جعلنا كما تقدم في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، فالكاف في محل نصب على أنه مفعول مطلق لفعل " جعلناه " .
وقوله : عدوا مفعول ( جعلنا ) الأول ، وقوله : ( لكل نبيء ) المجرور مفعول ثان لـ ( جعلنا ) وتقديمه على المفعول الأول للاهتمام به ؛ لأنه الغرض المقصود من السياق ؛ إذ المقصود الإعلام بأن هذه سنة الله في أنبيائه كلهم ، فيحصل بذلك التأسي والقدوة والتسلية ؛ ولأن في تقديمه تنبيها من أول السمع على أنه خبر ، وأنه ليس متعلقا بقوله : عدوا كيلا يخال السامع أن قوله : شياطين الإنس مفعول لأنه يحول الكلام إلى قصد الإخبار عن أحوال الشياطين ، أو عن تعيين العدو للأنبياء من هو ، وذلك ينافي بلاغة الكلام .
[ ص: 9 ] و شياطين بدل من عدوا وإنما صيغ التركيب هكذا : لأن المقصود الأول الإخبار بأن المشركين أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم ، فمن أعرب شياطين مفعولا لـ جعل و ( لكل نبيء ) ظرفا لغوا متعلقا بـ عدوا فقد أفسد المعنى .
" والعدو " اسم يقع على الواحد والمتعدد ، قال تعالى : هم العدو فاحذرهم وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم في سورة النساء .
والشيطان أصله نوع من الموجودات المجردة الخفية ، وهو نوع من جنس الجن ، وقد تقدم عند قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ويطلق الشيطان على المضلل الذي يفعل الخبائث من الناس على وجه المجاز ، ومنه شياطين العرب لجماعة من خباثهم ، منهم : ناشب الأعور ، وابنه سعد بن ناشب الشاعر ، وهذا على معنى التشبيه ، وشاع ذلك في كلامهم .
والإنس : الإنسان وهو مشتق من التأنس والإلف ؛ لأن البشر يألف بالبشر ويأنس به ، فسماه إنسا وإنسانا .
و ( شياطين الإنس ) استعارة للناس الذين يفعلون فعل الشياطين من مكر وخديعة ، وإضافة شياطين إلى الإنس إضافة مجازية على تقدير " من " التبعيضية مجازا ، بناء على الاستعارة التي تقتضي كون هؤلاء الإنس شياطين ، فهم شياطين ، وهم بعض الإنس ؛ أي : أن الإنس : لهم أفراد متعارفة ، وأفراد غير متعارفة يطلق عليهم اسم الشياطين ، فهي بهذا الاعتبار من إضافة الأخص من وجه إلى الأعم من وجه ، وشياطين الجن حقيقة ، والإضافة حقيقية ؛ لأن الجن منهم شياطين ، ومنهم غير شياطين ، ومنهم صالحون ، ظاهرة ، وما جاءت الأنبياء إلا للتحذير من فعل الشياطين ، وقد قال الله تعالى وعداوة شياطين الجن للأنبياء لآدم : إن هذا عدو لك ولزوجك .
[ ص: 10 ] وجملة يوحي في موضع الحال ، يتقيد بها الجعل المأخوذ من جعلنا فهذا الوحي من تمام المجعول .
والوحي : الكلام الخفي ، كالوسوسة ، وأريد به ما يشمل إلقاء الوسوسة في النفس من حديث يزور في صورة الكلام .
والبعض الموحي : هو ، فيكونون زعماء لأهل الشر والفساد . شياطين الجن ، يلقون خواطر المقدرة على تعليم الشر إلى شياطين الإنس
والزخرف : الزينة ، وسمي الذهب زخرفا ؛ لأنه يتزين به حليا ، وإضافة الزخرف إلى القول من إضافة الصفة إلى الموصوف ؛ أي : القول الزخرف ؛ أي : المزخرف ، وهو من الوصف بالجامد الذي في معنى المشتق ، إذ كان بمعنى الزين ، وأفهم وصف القول بالزخرف أنه محتاج إلى التحسين والزخرفة ، وإنما يحتاج القول إلى ذلك إذا كان غير مشتمل على ما يكسبه القبول في حد ذاته ، وذلك أنه كان يفضي إلى ضر يحتاج قائله إلى تزيينه وتحسينه لإخفاء ما فيه من الضر ، خشية أن ينفر عنه من يسوله لهم ، فذلك التزيين ترويج يستهوون به النفوس ، كما تموه للصبيان اللعب بالألوان والتذهيب .
وانتصب زخرف القول على النيابة عن المفعول المطلق من فعل يوحي لأن إضافة الزخرف إلى القول الذي هو من نوع الوحي تجعل زخرف نائبا عن المصدر المبين لنوع الوحي .
والغرور : الخداع والإطماع بالنفع لقصد الإضرار ، وقد تقدم عند قوله تعالى : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد في سورة آل عمران .
وانتصب غرورا على المفعول لأجله لفعل ( يوحي ؛ أي : يوحون زخرف القول ليغروهم .
[ ص: 11 ] والقول في معنى المشيئة من قوله : ولو شاء ربك ما فعلوه كالقول في ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وقوله : ولو شاء الله ما أشركوا والجملة معترضة بين المفعول لأجله وبين المعطوف عليه .
والضمير المنصوب في قوله : فعلوه عائد إلى الوحي المأخوذ من ( يوحي ) أو إلى الإشراك المتقدم في قوله : ولو شاء الله ما أشركوا أو إلى العداوة المأخوذة من قوله : ( لكل نبيء عدوا ) .
والضمير المرفوع عائد إلى شياطين الإنس والجن أو إلى المشركين ، أو إلى العدو ، وفرع عليه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتركهم وافتراءهم ، وهو ترك إعراض عن الاهتمام بغرورهم ، والنكد منه ، لا إعراض عن وعظهم ودعوتهم ، كما تقدم في قوله : وأعرض عن المشركين والواو بمعنى مع .
وما يفترون موصول منصوب على المفعول معه ، وما يفترونه هو أكاذيبهم الباطلة من زعمهم إلهية الأصنام ، وما يتبع ذلك من المعتقدات الباطلة .