إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
تعليل لقوله : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك لأن مضمونه التحذير من نزغاتهم وتوقع التضليل منهم ، وهو يقتضي أن المسلمين يريدون الاهتداء ، فليجتنبوا الضالين ، وليهتدوا بالله الذي يهديهم ، وكذلك شأن ( إن ) إذا جاءت في خبر لا يحتاج لرد الشك أو الإنكار ، ( أن ) تفيد تأكيد [ ص: 29 ] الخبر ووصله بالذي قبله ، بحيث تغني غناء فاء التفريع ، وتفيد التعليل ، ولما اشتملت الآيات المتقدمة على بيان ضلال الضالين ، وهدى المهتدين ، كان قوله : إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين تذييلا لجميع تلك الأغراض .
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله : إن ربك لتشريف المضاف إليه ، وإظهار أن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام هو الهدى ، وأن الذين أخبر عنهم بأنهم مضلون لا حظ لهم في الهدى ؛ لأنهم لم يتخذوا الله ربا لهم ، وقد أبو سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجيبوه قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم . قال
و أعلم اسم تفضيل للدلالة على أن الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالين ، ولا أحد من المهتدين ، وأن غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلين ، ويفوته علم كثير من الفريقين ، وتخفى عليه دخيلة بعض الفريقين .
والضمير في قوله : هو أعلم ضمير الفصل ، لإفادة قصر المسند على المسند إليه ، ، لا يشاركه فيها غيره ، ووجه هذا القصر أن الناس لا يشكون في أن علمهم بالضالين والمهتدين علم قاصر ؛ لأن كل أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من الناس ، وكلهم يعلم قصور علمه ، ويتحقق أن ثمة من هو أعلم من العالم منهم ، لكن المشركين يحسبون أن الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم ، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلمية المطلقة . فالأعلمية بالضالين والمهتدين مقصورة على الله تعالى
و ( من ) موصولة ، وإعرابها نصب بنزع الخافض وهو الباء ، كما دل عليه وجود الباء في قوله : وهو أعلم بالمهتدين لأن أفعل التفضيل [ ص: 30 ] لا ينصب بنفسه مفعولا به لضعف شبهه بالفعل ، بل إنما يتعدى إلى المفعول بالباء أو باللام أو بإلى ، ونصبه المفعول نادر ، وحقه هنا أن يعدى بالباء ، فحذفت الباء إيجاز حذف ، تعويلا على القرينة .
وإنما حذف الحرف من الجملة الأولى ، وأظهر في الثانية دون العكس ، مع أن شأن القرينة أن تتقدم ؛ لأن أفعل التفضيل يضاف إلى جمع يكون المفضل واحدا منهم ، نحو : هو أعلم العلماء وأكرم الأسخياء ، فلما كان المنصوبان فيهما غير ظاهر عليهما الإعراب ، يلتبس المفعول بالمضاف إليه ، وذلك غير ملتبس في الجملة الأولى ؛ لأن الصلة فيها دالة على أن المراد أن الله أعلم بهم ، فلا يتوهم أن يكون المعنى : الله أعلم الضالين عن سبيله ؛ أي : أعلم عالم منهم ؛ إذ لا يخطر ببال سامع أن يقال : فلان أعلم الجاهلين ؛ لأنه كلام متناقض ، فإن الضلال جهالة ، ففساد المعنى يكون قرينة على إرادة المعنى المستقيم ، وذلك من أنواع القرينة الحالية ، بخلاف ما لو قال : وهو أعلم المهتدين ، فقد يتوهم السامع أن المراد أن الله أعلم المهتدين ؛ أي : أقوى المهتدين علما ؛ لأن الاهتداء من العلم ، هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله : هو أعلم من يضل عن سبيله من حرف الجر الذي يتعدى به ( أعلم .