كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها
الواو في قوله : أومن كان ميتا عاطفة لجملة الاستفهام على جملة وإن أطعتموهم إنكم لمشركون لتضمن قوله : وإن أطعتموهم أن المجادلة المذكورة من قبل مجادلة في الدين بتحسين أحوال أهل الشرك وتقبيح أحكام الإسلام التي منها تحريم الميتة ، وتحريم ما ذكر اسم غير الله عليه ، فلما حذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشياطين ومجادلتهم بقوله : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون أعقب ذلك بتفظيع حال المشركين ، ووصف حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشرك ، فجاء بتمثيلين للحالتين ، ونفى مساواة إحداهما للأخرى ؛ تنبيها على سوء أحوال أهل الشرك وحسن حال أهل الإسلام .
والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تماثل الحالتين : فالحالة الأولى حالة الذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين ، وهي المشبهة بحال من كان ميتا مودعا في ظلمات فصار حيا في نور واضح ، وسار في الطريق الموصلة للمطلوب بين الناس ، والحالة الثانية حالة المشرك وهي المشبهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها ؛ لأنه في ظلمات ، وفي الكلام إيجاز حذف في ثلاثة مواضع ؛ استغناء بالمذكور عن المحذوف فقوله : أومن كان ميتا معناه : أحال من كان ميتا ، أو صفة من كان ميتا .
[ ص: 44 ] وقوله : وجعلنا له نورا يمشي به في الناس يدل على أن المشبه به حال من كان ميتا في ظلمات .
وقوله : كمن مثله في الظلمات تقديره : كمن مثله مثل ميت فماصدق ( من ) ميت بدليل مقابلته بميت في الحالة المشبهة ، فيعلم أن جزء الهيئة المشبهة هو الميت لأن المشبه والمشبه به سواء في الحالة الأصلية ، وهي حالة كون الفريقين مشركين ، ولفظ مثل بمعنى حالة ، ونفي المشابهة هنا معناه نفي المساواة ، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلا لا يلتبس ، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله : قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور ) وقوله : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون .
والكاف في قوله : كمن مثله في الظلمات كاف التشبيه ، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري .
والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسلم وتخلص من الشرك بحال من كان ميتا فأحيي ، وتمثيل حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره .
فتضمنت جملة أومن كان ميتا إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى ، وجملة كمن مثله في الظلمات إلخ تمثيل الحالة الثانية ، فهما حالتان مشبهتان ، وحالتان مشبه بهما ، وحصل بذكر كاف التشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أن معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بقي في الشرك ، كما حصل من مجموع الجملتين أن في نظم الكلام تشبيهين مركبين .
ولكن وجود كاف التشبيه في قوله : كمن مثله مع عدم التصريح بذكر المشبهين في التركيبين أثارا شبهة في اعتبار هذين التشبيهين أهو من قبيل التشبيه التمثيلي ، أم من قبيل الاستعارة التمثيلية ؛ فنحا [ ص: 45 ] القطب الرازي في شرح الكشاف القبيل الأول ، ونحا التفتزاني القبيل الثاني ، والأظهر ما نحاه التفتزاني أنهما استعارتان تمثيليتان ، وأما كاف التشبيه فهو متوجه إلى المشابهة المنفية في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين ، فمورد كاف التشبيه غير مورد تمثيل الحالين . وبين الاعتبارين بون خفي .
والمراد بـ الظلمات ظلمة القبر لمناسبته للميت ، وبقرينة ظاهر ( في ) من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج .
ولقد جاء التشبيه بديعا ؛ إذ جعل حال المسلم ، بعد أن صار إلى الإسلام ، بحال من كان عديم الخير ، عديم الإفادة كالميت ، فإن الشرك يحول دون التمييز بين الحق والباطل ، ويصرف صاحبه عن السعي إلى ما فيه خيره ونجاته ، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف ، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغير حاله ، فصار يميز بين الحق والباطل ، ويعلم الصالح من الفاسد ، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصلاح ، ويتنكب عن سبيل الفساد ، فصار في نور يمشي به في الناس .
وقد تبين بهذا التمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادهم .
والباء في قوله : يمشي به باء السببية ، والناس المصرح به في الهيئة المشبهة بها هم الأحياء الذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني .
والناس المقدر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين . وقد جاء المركب التمثيلي تاما صالحا لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة ، ولاعتبار تشبيه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها ، كما قد علمته ، وذلك أعلى التمثيل .
وجملة ليس بخارج منها حال من الضمير المجرور بإضافة ( مثل ) أي : ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنور بنور ما دام في حالة الإشراك .
[ ص: 46 ] وجملة كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون استئناف بياني ، لأن التمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السامع سؤالا ، أن يقول : كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضلالات ، وكيف لم يشعروا بالبون بين حالهم وحال الذين أسلموا ؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم ، فكيف لما دعاهم الإسلام إلى الحق ونصب لهم الأدلة والبراهين بقوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهم أهل عقول وفطنة فكان حقيقا بأن يبين له السبب في دوامهم على الضلال ، وهو أن ما عملوه كان تزينه لهم الشياطين ، هذا التزيين العجيب ، الذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالا مزينا أوضح منه وأعجب فلا يشبه ضلالهم إلا بنفسه على حد قولهم : والسفاهة كاسمها .
واسم الإشارة في قوله : كذلك زين للكافرين مشار به إلى التزيين المأخوذ من فعل ( زين ) أي : مثل ذلك التزيين للكافرين العجيب كيدا ودقة زين لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدم في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة .
وحذف فاعل التزيين فبني الفعل للمجهول ؛ لأن المقصود وقوع التزيين لا معرفة من أوقعه . والمزين شياطينهم وأولياؤهم ، كقوله : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ولأن الشياطين من الإنس هم المباشرون للتزيين ، وشياطين الجن هم المسئولون المزينون ، والمراد بالكافرين المشركون الذين الكلام عليهم في الآيات السابقة إلى قوله : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم .