ولا يريبك قوله تعالى في سورة الحجر إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين لأن تلك حكت القصة بإجمال فطوت أنباءها طيا جاء تبيينه في ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها أية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن آدم لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماء وعرضها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها وأنهم كانوا قبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم فضيلة بآدم أن يكون مفسدا في الأرض بعد أن لازموا جانب التوقف لما قال الله لهم ( إني أعلم ما لا تعلمون ) فكان إنباء آدم بالأسماء عند عجزهم عن الإنباء بها بيانا لكشف شبهتهم فاستحقوا أن يأتوا بما فيه معذرة عن عدم علمهم بحقه .
[ ص: 421 ] وقد أريد من هذه القصة إظهار مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عن فائدة من وجوده في هذا العالم وإظهار فضيلة المعرفة ، وبيان أن العالم حقيق بتعظيم من حوله إياه ، وإظهار ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد ، وبيان أن الاعتراف بالحق من خصال الفضائل الملائكية ، وأن الفساد والحسد والكبر من مذام ذوي العقول .
والقول في إعراب إذ كالقول الذي تقدم في تفسير قوله وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة وإظهار لفظ الملائكة ولفظ آدم هنا دون الإتيان بضميريهما كما في قوله ( قالوا سبحانك ) وقوله ( فلما أنبأهم ) لتكون القصة المعطوفة معنونة بمثل عنوان القصة المعطوف عليها إشارة إلى جدارة المعطوفة بأن تكون قصة مقصودة غير مندمجة في القصة التي قبلها .
وغير أسلوب إسناد القول إلى الله فأتي به مسندا إلى ضمير العظمة ( وإذ قلنا ) وأتى به في الآية السابقة مسندا إلى رب النبيء ( وإذ قال ربك ) للتفنن ، ولأن القول هنا تضمن أمرا بفعل فيه غضاضة على المأمورين فناسبه إظهار عظمة الآمر ، وأما القول السابق فمجرد إعلام من الله بمراده ليظهر رأيهم ، ولقصد اقتران الاستشارة بمبدأ تكوين الذات الأولى من نوع الإنسان المحتاج إلى التشاور فناسبه الإسناد إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين . وأضيف إلى ضمير أشرف المربوبين وهو النبيء صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة طأطأة الجسد أو إيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهد بالعيان كالسجود للملك والسيد والسجود للكواكب ، قال تعالى وحقيقة السجود وخروا له سجدا وقال لا تسجدوا للشمس ولا للقمر وقال الأعشى :
فلما أتانا بعيد الكرى سجدنا له وخلعنا العمارا وقال أيضا :
يراوح من صلوات الملي
ك طورا سجودا وطورا جؤارا
وهيئة سجود الصلاة مختلفة باختلاف الأديان . والسجود في صلاة الإسلام الخرور على الأرض بالجبهة واليدين والرجلين .
وتعدية اسجدوا لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته وهو أصل دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود مثل قوله تعالى فاسجدوا لله واعبدوا وقوله لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ولا يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في الشرائع الأخرى ، ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض فلا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة للمسلمين ، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في قول حسان :
أليس أول من صلى لقبلتكم فإن للضرورة أحكاما
وعطف ( فسجدوا ) بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال ولم يصدهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء لأنهم منزهون عن المعاصي .
واستثناء إبليس من ضمير الملائكة في " فسجدوا " استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قال تعالى في سورة الكهف إلا إبليس كان من الجن ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم فساغ استثناء حاله من أحوالهم في مظنة أن يكون مماثلا لمن هو فيهم .
وقد دلت الآية على أن إبليس كان مقصودا في الخبر الذي أخبر به الملائكة إذ قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة وفي الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم اسجدوا لآدم ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغمورا بنوع الملك إذ خلق الله من نوعهم أفرادا كثيرة كما دل عليه صيغة الجمع في قوله وإذ قال ربك للملائكة ولم يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم وهو إبليس . وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم . وقد إقامة ارتياض وتخلق وسخره لاتباع سنتهم فجرى على ذلك السنن أمدا طويلا لا يعلمه إلا الله ثم ظهر ما في نوعه من الخبث كما أشار إليه قوله تعالى ( أقام الله إبليس بين الملائكة ففسق عن أمر ربه ) في سورة الكهف فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم .
[ ص: 424 ] وإبليس اسم الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين ، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم لنوع الإنسان . وإبليس اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة ، ولكن يدل لكونه معربا أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة ولهذا جعل همزته أصلية ، وقال : وزنه على فعليل . وقال الزجاج أبو عبيدة هو اسم عربي مشتق من الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة وهذا اشتقاق حسن لولا أنه يناكد منعه من الصرف ، وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه من الصرف بأنه لما لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك .
وأكثر الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا ذلك ، ولصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها .
وجمل أبى واستكبر وكان من الكافرين استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في السجود لآدم ، شأنه أن يثير سؤالا في نفس السامع كيف لم يفعل إبليس ما أمر به وكيف خالف حال جماعته ، وما سبب ذلك لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة إذ الشأن الموافقة بين الجماعات كما قال دريد بن الصمة .
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
والإباء الامتناع من فعل أو تلقيه . والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيرا مثل : استعظم واستعذب الشراب ، أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل : استجاب واستقر ، فمعنى استكبر اتصف بالكبر . والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقا لأن يسجد هو له إنكارا عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة كما دلت عليه آيات أخرى مثل قوله قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فإبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة ، فاستحالت إلى جبلة أخرى على نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله . وللقادر حين تشل بعض أعضائه . ومن العلل علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال : [ ص: 425 ] فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت
والاستكبار التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت ، ومن لطائف اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجئ منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلبا الكبر أو متكلفا له ، وما هو بكبير حقا ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء :
علوتم فتواضعتم على ثقة لما تواضع أقوام على غرر
قال فيها حجة الإسلام في كتاب الإحياء : الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه ، فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم المرء نفسه ليكون متكبرا فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مماثلا لها فلا يتكبر عليه ، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ، ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد ، وعز في نفسه بسبب ذلك ، فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر . وحقيقة الكبر
وقد كانت هذه الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من حكم يثبت للمستثنى فقال الجمهور : الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به المستثنى منه فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى سواء كان الكلام مثبتا أو منفيا .
ويظهر ذلك جليا في كلمة الشهادة لا إله إلا الله فإنه لولا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها الوحدانية لله بالالتزام وقال أبو حنيفة : الاستثناء من كلام منفي يثبت للمستثنى نقيض ما حكم به للمستثنى منه ، والاستثناء من كلام مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به ، فالمستثنى بمنزلة المسكوت عن وصفه ، [ ص: 426 ] فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به للمستثنى منه ، وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه .
وسوى المتأخرون من الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه ، وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة ولا موارد استعماله في الشريعة .
فعلى رأي الجمهور تكون جملة أبى واستكبر استئنافا بيانيا ، وعلى رأي الحنفية تكون بيانا للإجمال الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين .
وجملة ( وكان من الكافرين ) معطوفة على الجمل المستأنفة ، و ( كان ) لا تفيد إلا أنه اتصف بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية ، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من السجود لآدم ، وقد تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل كان على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود ، ومن البديهي أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا بأن إبليس كان من الكافرين أي في علم الله ، وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهرا الطاعة مبطنا الكفر نفاقا ، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه مما أشار إليه قوله تعالى إني أعلم ما لا تعلمون وكل ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضي الفعل قبل وقت التكلم ، وأمثلهم طريقة الذين جعلوا ( كان ) بمعنى صار فإنه استعمال من استعمال فعل " كان " ، قال تعالى وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقال وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وقول : ابن أحمر
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي صار كافرا بعدم السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق الحكمة وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة الله تعالى فلذلك صار به كافرا صراحا .
والذي أراه أحسن الوجوه في معنى وكان من الكافرين أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال أبى واستكبر فعدل عن مقتضى الظاهر إلى ( وكان من الكافرين ) لدلالة كان [ ص: 427 ] في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها ، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفرا عميقا في نفسه ، وهذا كقوله تعالى فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وكقوله تعالى ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون دون أن يقول أن لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء ، وأما الإتيان بخبر كان ( من الكافرين ) دون أن يقول وكان كافرا فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحدا من جماعة يثبت لهم ذلك الوصف ، أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكا بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة ؛ لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها ، وعليه جاء قوله تعالى أصدقت أم كنت من الكاذبين وقوله الذي ذكرناه آنفا أم تكون من الذين لا يهتدون وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل . وهذا منزع انتزعته من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين ؛ خصوصية زيادة كان وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به ، وسيجيء ذلك قريبا عند قوله تعالى كان إبليس وحيدا في الكفر واركعوا مع الراكعين وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله ( وكان من الكافرين ) جاريا على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي .
وفي هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضا ، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود ، وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقا لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وقد أشرت إلى ذلك في كتابي أصول الإنشاء والخطابة .