ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون
استئناف ابتدائي تهديد وموعظة وعبرة بتفريط أهل الضلالة في فائدة دعوة الرسل ، وتنبيه لجدوى إرسال الرسل إلى الأمم ؛ ليعيد المشركون نظرا في أمرهم ما داموا في هذه الدار قبل يوم الحشر ، ويعلموا أن خسرى ، فيتداركوا أمرهم خشية الفوات ، وإنذار باقتراب نزول العذاب بهم ، وإيقاظ للمشركين بأن حالهم كحال المتحدث عنهم إذا ماتوا على شركهم . عاقبة الإعراض عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
والإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى مذكور في الكلام السابق ، وهو أقرب مذكور ، كما هو شأن الإشارة إلى غير محسوس ، فالمشار إليه هو المذكور [ ص: 81 ] قبل ، أو هو إتيان الرسل الذي جرى الكلام عليه في حكاية تقرير المشركين في يوم الحشر عن إتيان رسلهم إليهم ، وهو المصدر المأخوذ من قوله : ألم يأتكم رسل منكم فإنه لما حكى ذلك القول للناس السامعين ، صار ذلك القول المحكي كالحاضر ، فصح أن يشار إلى شيء يؤخذ منه .
واسم الإشارة إما مبتدأ أو خبر لمحذوف تقديره : ذلك الأمر أو الأمر ذلك ، كما يدل عليه ضمير الشأن المقدر بعد ( أن ) .
و ( أن ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، كما هو استعمالها عند التخفيف ؛ وذلك لأن هذا الخبر له شأن يجدر أن يعرف ، والجملة خبر ( أن ) وحذفت لام التعليل الداخلة على أن لأن حذف جار ( أن ) كثير شائع ، والتقدير : ذلك الأمر ، أو الأمر ذلك ؛ لأنه أي الشأن لم يكن ربك مهلك القرى .
وجملة لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون هو شأن عظيم من شئون الله تعالى ، وهو شأن عدله ورحمته ، ورضاه لعباده الخير والصلاح ، وكراهيته سوء أعمالهم ، وإظهاره أثر ربوبيته إياهم بهدايتهم إلى سبل الخير ، وعدم مباغتتهم بالهلاك قبل التقدم إليهم بالإنذار والتنبيه .
وفي الكلام إيجاز ؛ إذ علم منه : أن الله يهلك القرى المسترسل أهلها على الشرك إذا أعرضوا عن دعوة الرسل ، وأنه لا يهلكهم إلا بعد أن يرسل إليهم رسلا منذرين ، وأنه أراد حمل تبعة هلاكهم عليهم ، حتى لا يبقى في نفوسهم أن يقولوا : لولا رحمنا ربنا فأنبأنا وأعذر إلينا ، كما قال تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله أي : محمد صلى الله عليه وسلم أو قبل القرآن لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى
[ ص: 82 ] فاقتصر من هذا المعنى على معنى أن علة الإرسال هي عدم إهلاك القرى على غفلة ، فدل على المعنى المحذوف .
والإهلاك : إعدام ذات الموجود وإماتة الحي ، قال تعالى : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فإهلاك القرى إبادة أهلها وتخريبها ، وإحياؤها إعادة عمرانها بالسكان والبناء ، قال تعالى : أنى يحيي هذه - أي : القرية - الله بعد موتها وإهلاك القرى هنا شامل لإبادة سكانها ؛ لأن الإهلاك تعلق بذات القرى ، فلا حاجة إلى التمجز في إطلاق القرى على أهل القرى كما في : واسأل القرية لصحة الحقيقة هنا ؛ ولأنه يمنع منه قوله : وأهلها غافلون ألا ترى إلى قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا فجعل إهلاكها تدميرها ، وإلى قوله : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها
والباء في ( بظلم ) للسببية ، والظلم : الشرك ؛ أي : مهلكهم بسبب شرك يقع فيها ، فيهلكها ويهلك أهلها الذين أوقعوه ، ولذلك لم يقل : بظلم أهلها ؛ لأنه أريد أن وجود الظلم فيها سبب هلاكها ، وهلاك أهلها بالأحرى ؛ لأنهم المقصود بالهلاك .
وجملة وأهلها غافلون حال من القرى وصرح هنا بـ ( أهلها ) تنبيها على أن هلاك القرى من جراء أفعال سكانها فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا .