[ ص: 90 ] قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار  إنه لا يفلح الظالمون  
استئناف ابتدائي بعد قوله : إن ما توعدون لآت  فإن المقصود الأول منه هو وعيد المشركين كما مر ، فأعقبه بما تمحض لوعيدهم ، وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتهديد ، ليملي لهم في ضلالهم إملاء يشعر ، في متعارف التخاطب ، بأن المأمور به مما يزيد المأمور استحقاقا للعقوبة واقترابا منها ، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يناديهم ويهددهم ، وأمر أن يبتدئ خطابهم بالنداء للاهتمام بما سيقال لهم ؛ لأن النداء يسترعي إسماع المنادين ، وكان المنادي عنوان القوم لما يشعر به من أنه قد رق لحالهم حين توعدهم بقوله : إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين  لأن الشأن أنه يحب لقومه ما يحب لنفسه . 
والنداء للقوم المعاندين بقرينة المقام الدال على أن الأمر للتهديد ، وأن عملهم مخالف لعمله ، لقوله : اعملوا ) مع قوله : ( إني عامل . 
فالأمر في قوله : اعملوا للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنصح بحيث يغير ناصحهم نصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبون أن يفعلوا ، كقوله تعالى : اعملوا ما شئتم  وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائه بالمأمور بأن يفعل ما كان ينهى عنه ، فكأن ذلك المنهي صار واجبا ، وهذا تهكم . 
والمكانة : المكان ، جاء على التأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام ، والدارة اسما للدار ، والماءة للماء الذي ينزل حوله ، يقال : أهل الماء وأهل الماءة . 
والمكانة هنا مستعارة للحالة التي تلبس بها المرء ، تشبه الحالة في إحاطتها وتلبس صاحبها بها بالمكان الذي يحوي الشيء ، كما تقدم   [ ص: 91 ] إطلاق الدار آنفا في قوله تعالى : لهم دار السلام  أو تكون المكانة كناية عن الحالة ؛ لأن أحوال المرء تظهر في مكانه ومقره ، فلذلك يقال : يا فلان على مكانتك ؛ أي : اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه . 
ومفعول ( اعملوا ) محذوف ؛ لأن الفعل نزل منزلة اللازم ؛ أي : اعملوا عملكم المألوف الذي هو دأبكم ، وهو الإعراض والتكذيب بالحق . 
و ( على ) مستعملة في التمكن على وجه الاستعارة التبعية ، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة ؛ لأن العلاوة تناسب المكان ، فهي ترشيح للاستعارة ، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه ، والمعنى : الزموا حالكم فلا مطمع لي في اتباعكم . 
وقرأ الجمهور : على مكانتكم  بالإفراد ، وقرأه أبو بكر  ، عن عاصم    : " مكاناتكم " جمع مكانة ، والجمع باعتبار جمع المضاف إليه . 
وجملة ( إني عامل ) تعليل لمفاد التسوية من الأمر في قوله : ( اعملوا ) أي : لا يضرني تصميمكم على ما أنتم عليه ، لكني مستمر على عملي ؛ أي : أني غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدعاء إلى الله . 
وحذف متعلق إني عامل للتعميم مع الاختصار ، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر . 
ورتب على عملهم وعمله الإنذار بالوعيد فسوف تعلمون  بفاء التفريع ؛ للدلالة على أن هذا الوعيد متفرع على ذلك التهديد . 
وحرف التنفيس مراد منه تأكيد الوقوع ؛ لأن حرفي التنفيس يؤكدان المستقبل كما تؤكد " قد " الماضي ، ولذلك قال  سيبويه  في الكلام على " لن " : إنها لنفي سيفعل ، فأخذ منه  الزمخشري  إفادتها تأكيد النفي . 
 [ ص: 92 ] وهذا صريح في التهديد ؛ لأن إخبارهم بأنهم سيعلمون يفيد أنه يعلم وقوع ذلك لا محالة ، وتصميمه على أنه عامل على مكانته ومخالف لعملهم يدل على أنه موقن بحسن عقباه وسوء عقباهم ، ولولا ذلك لعمل عملهم ؛ لأن العاقل لا يرضى الضر لنفسه ، فدل قوله : فسوف تعلمون  على أن علمهم يقع في المستقبل ، وأما هو فعالم من الآن ، ففيه كناية عن وثوقه بأنه محق ، وأنهم مبطلون ، وسيجيء نظير هذه الآية في قصة شعيب  من سورة هود . 
وقوله : من تكون له عاقبة الدار  استفهام ، وهو يعلق فعل العلم عن العمل ، فلا يعطى مفعولين استغناء بمفاد الاستفهام ؛ إذ التقدير : تعلمون أحدنا تكون له عاقبة الدار . وموضع ( من ) رفع على الابتداء ، وجملة تكون له عاقبة الدار  خبره . 
والعاقبة في اللغة : آخر الأمر ، وأثر عمل العامل ، فعاقبة كل شيء هي ما ينجلي عن الشيء ويظهر في آخره من أثر ونتيجة ، وتأنيثه على تأويل الحالة ، فلا يقال : عاقب الأمر ، ولكن عاقبة وعقبى . 
وقد خصص الاستعمال لفظ العاقبة بآخرة الأمر الحسنة ، قال الراغب    : العاقبة والعقبى يختصان بالثواب نحو والعاقبة للمتقين  وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة نحو ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى  وقل من نبه على هذا ، وهو من تدقيقه ، وشواهده في القرآن كثيرة . 
والدار الموضع الذي يحل به الناس من أرض أو بناء ، وتقدم آنفا عند قوله تعالى : لهم دار السلام  وتعريف الدار هنا تعريف الجنس . 
فيجوز أن يكون لفظ الدار مطلقا ، على المعنى الحقيقي ، فإضافة ( عاقبة ) إلى ( الدار ) إضافة حقيقية ؛ أي : حسن الأخارة الحاصل في الدار ، وهي الفوز بالدار ، والفلج في النزاع عليها ، تشبيها بما كان العرب يتنازعون على المنازل والمراعي ، وبذلك يكون قوله : من تكون له عاقبة الدار   [ ص: 93 ] استعارة تمثيلية مكنية ، شبهت حالة المؤمنين الفائزين في عملهم ، مع حالة المشركين ، بحالة الغالب على امتلاك دار عدوه ، وطوي المركب الدال على الهيئة المشبه بها ، ورمز إليه بذكر ما هو من روادفه ، وهو عاقبة الدار  فإن التمثيلية تكون مصرحة ، وتكون مكنية ، وإن لم يقسموها إليهما ، لكنه تقسيم لا محيص منه . 
ويجوز أن تكون الدار مستعارة للحالة التي استقر فيها أحد ، تشبيها للحال بالمكان في الاحتواء ، فتكون إضافة ( عاقبة ) إلى ( الدار ) إضافة بيانية ؛ أي : العاقبة الحسنى التي هي حاله ، فيكون الكلام استعارة مصرحة . 
ومن محاسنها هنا أنها بنت على استعارة المكانة للحالة في قوله : اعملوا على مكانتكم  فصار المعنى : اعملوا في داركم ما أنتم عاملون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار . 
وفي الكلام مع ذلك إيماء إلى أن عاقبة تلك الدار ؛ أي : بلد مكة ،  أن تكون للمسلمين ، كقوله تعالى : أن الأرض يرثها عبادي الصالحون  وقد فسر قوله : من تكون له عاقبة الدار  بغير هذا المعنى . 
وقرأ الجمهور : ( من تكون ) بتاء فوقية ، وقرأه حمزة   والكسائي  بتحتية ؛ لأن تأنيث ( عاقبة ) غير حقيقي ، فلما وقع فاعلا فيجوز فيه أن يقرن بعلامة التأنيث وبدونها . 
وجملة إنه لا يفلح الظالمون  تذييل للوعيد يتنزل منزلة التعليل ؛ أي : لأنه لا يفلح الظالمون ، ستكون عقبى الدار للمسلمين ، لا لكم ؛ لأنكم ظالمون . 
والتعريف في الظالمون للاستغراق ، فيشمل هؤلاء الظالمين ابتداء ، والضمير المجعول اسم ( إن ) ضمير الشأن تنبيها على الاهتمام بهذا الخبر وأنه أمر عظيم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					