تذييل جعل فذلكة للكلام السابق المشتمل على بيان ضلالهم في قتل أولادهم ، وتحجير بعض الحلال على بعض من أحل له .
وتحقيق الفعل بـ ( قد ) للتنبيه على أن خسرانهم أمر ثابت ، فيفيد التحقيق التعجيب منهم كيف عموا عما هم فيه من خسرانهم ، وعن قال سعيد بن جبير : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام ابن عباس قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم إلى وما كانوا مهتدين أي : من قوله تعالى : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا وجعلها فوق الثلاثين ومائة تقريبا ، وهي في العد السادسة والثلاثون ومائة .
ووصف فعلهم بالخسران ؛ لأن حقيقة الخسران نقصان مال التاجر ، والتاجر قاصد الربح وهو الزيادة ، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عمل لأجله ، ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الذين يعملون طلبا لمرضاة الله وثوابه فيقعون في غضبه وعقابه ؛ لأنهم أتعبوا أنفسهم فحصلوا عكس ما تعبوا لأجله ؛ ذلك أن هؤلاء الذين قتلوا أولادهم قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلص من أضرار في الدنيا محتمل لحاقها بهم من جراء بناتهم ، فوقعوا في أضرار محققة في الدنيا وفي الآخرة ، فإن النسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به ويجدونه لكفاية مهماتهم ، ونعمة على القبيلة تكثر وتعتز ، وعلى العالم كله بكثرة من يعمره وبما ينتفع به الناس من مواهب النسل وصنائعه ، ونعمة على النسل نفسه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها .
ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام [ ص: 114 ] التناسل ، حفظا للنوع ، وتعميرا للعالم ، وإظهارا لما في الإنسان من مواهب تنفعه وتنفع قومه ، على ما في عملهم من اعتداء على حق البنت الذي جعله الله لها وهو حق الحياة إلى انقضاء الأجل المقدر لها ، وهو حق فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بين لرجاء صلاح لغير المظلوم ، ولا يضر بأحد لينتفع غيره ، فلما قتل بعض العرب بناتهم بالوأد كانوا قد عطلوا مصالح عظيمة محققة ، وارتكبوا به أضرارا حاصلة ، من حيث أرادوا التخلص من أضرار طفيفة غير محققة الوقوع ، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتاجر الذي أراد الربح فباء بضياع أصل ماله ، ولأجل ذلك سمى الله فعلهم سفها ؛ لأن السفه هو خفة العقل واضطرابه ، وفعلهم ذلك سفه محض ؛ أي : سفه أعظم من إضاعة مصالح جمة ، وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة ، لأجل التخلص من أضرار طفيفة قد تحصل وقد لا تحصل ، وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في الخبر فإن خسرانهم مسبب عن قتل أولادهم .
وقوله : ( سفها ) منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل ، أنه قتل سفه لا رأي لصاحبه ، بخلاف قتل العدو وقتل القاتل ، ويجوز أن ينتصب على الحال من الذين قتلوا وصفوا بالمصدر ؛ لأنهم سفهاء بالغون أقصى السفه .
والباء في قوله : بغير علم للملابسة ، وهي في موضع الحال إما من ( سفها ) فتكون حالا مؤكدة ، إذ السفه لا يكون إلا بغير علم ، وإما من فاعل ( قتلوا ) فإنهم لما فعلوا القتل كانوا جاهلين بسفاهتهم وبشناعة فعلهم وبعاقبة ما قدروا حصوله لهم من الضر ، إذ قد يحصل خلاف ما قدروه ولو كانوا يزنون المصالح والمفاسد لما أقدموا على فعلتهم الفظيعة .
والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم بعد الإخبار عنه بأنه [ ص: 115 ] سفه ، التنبيه على أنهم فعلوا ما في العالم من المفاسد ، وينظمون حياتهم أحسن نظام ، وهم في ذلك مغرورون بأنفسهم ، وجاهلون بأنهم يجهلون الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
وتقدم الكلام على الوأد آنفا ، ويأتي في سورة الإسراء عند قوله : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق .
وقرأ الجمهور : قتلوا أولادهم بتخفيف التاء وقرأه ابن عامر بتشديد التاء ؛ لأنه قتل بشدة ، وليست قراءة الجمهور مفيتة هذا المعنى ؛ لأن تسليط فعل القتل على الأولاد يفيد أنه قتل فظيع .
وقوله : وحرموا ما رزقهم الله نعى عليهم خسرانهم في أن حرموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله ، فحرموا الانتفاع به ، وحرموا الناس الانتفاع به ، وهذا شامل لجميع المشركين ، بخلاف الذين قتلوا أولادهم ، والموصول الذي يراد به الجماعة يصح في العطف على صلته أن تكون الجمل المتعاطفة مع الصلة موزعة على طوائف تلك الجماعة كقوله تعالى : إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم .
وانتصب ( افتراء ) على المفعول المطلق لـ ( حرموا ) لبيان نوع التحريم بأنهم نسبوه لله كذبا .
وجملة ( قد ضلوا ) استئناف ابتدائي لزيادة النداء على تحقق ضلالهم .
والضلال : خطأ الطريق الموصل إلى المقصود ، فهم راموا البلوغ إلى مصالح دنيوية ، والتقرب إلى الله وإلى شركائهم ، فوقعوا في المفاسد العظيمة ، وأبعدهم الله بذنوبهم ، فلذلك كانوا كمن رام الوصول فسلك طريقا آخر .
[ ص: 116 ] وعطف وما كانوا مهتدين على قد ضلوا لقصد التأكيد لمضمون جملة ضلوا ؛ لأن مضمون هذه الجملة ينفي ضد الجملة الأولى فتئول إلى تقرير معناها .
والعرب إذا أكدوا بمثل هذا قد يأتون به غير معطوف نظرا لمآل مفاد الجملتين ، وأنهما باعتباره بمعنى واحد ، وذلك حق التأكيد كما في قوله تعالى : أموات غير أحياء ، وقوله : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ، وقول الأعشى :
إما ترينا حفاة لا نعال لنا
وقد يأتون به بالعطف وهو عطف صوري لأنه اعتداد بأن مفهوم الجملتين مختلف ، ولا اعتداد بمآلها كما في قوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى ، وقوله : قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، وقول : المتنبي
والبين جار على ضعفي وما عدلا
وكذلك جاء في هذه الآية ليفيد ، بالعطف ، أنهما خبران عن مساويهم .و ( كان ) هنا في حكم الزائدة ؛ لأنها زائدة معنى ، وإن كانت عاملة ، والمراد وما هم بمهتدين ، فزيادة ( كان ) هنا لتحقيق النفي مثل موقعها مع لام الجحود ، وليس المراد أنهم ما كانوا مهتدين قبل أن يقتلوا أولادهم ويحرموا ما رزقهم الله ؛ لأن هذا لا يتعلق به غرض بليغ .