من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون
من عادة القرآن أنه إذا أنذر أعقب الإنذار لمن لا يحق عليه ذلك الإنذار ، وإذا بشر أعقب البشارة لمن يتصف بضد ما بشر عليه ، وقد جرى على ذلك هاهنا : فإنه لما أنذر المؤمنين وحذرهم من التريث في اكتساب الخير ، قبل أن يأتي بعض آيات الله القاهرة ، بقوله : [ ص: 195 ] " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " فحد لهم بذلك حدا هو من مظهر عدله ، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعدله . وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيئة بمثلها ، فقوله : " من جاء بالحسنة " إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الأنفال بين الأغراض .
فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قوله : " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " الآية ، كما تقدم آنفا .
و جاء بالحسنة معناه عمل الحسنة : شبه عمله الحسن بحال المكتسب ، إذ يخرج يطلب رزقا من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء . وهذا كما استعير له اسم التجارة في قوله تعالى : " فما ربحت تجارتهم .
فالباء للمصاحبة ، والكلام تمثيل ، ويجوز حمل المجيء على حقيقته ، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابها في صحيفة أعماله .
وأمثال الحسنة ثواب أمثالها ، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله : فلا يجزى إلا مثلها ، أو معناه تحسب له عشر حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث : ويعرف من ذلك أن الثواب على نحو ذلك الحساب كما دل عليه قوله كتبها الله عنده عشر حسنات فلا يجزى إلا مثلها .
والأمثال : جمع مثل وهو المماثل المساوي ، وجيء له باسم عدد المؤنث وهو عشر اعتبارا بأن الأمثال صفة لموصوف محذوف دل عليه الحسنة [ ص: 196 ] أي فله عشر حسنات أمثالها ، فروعي في اسم العدد معنى مميزه دون لفظه وهو أمثال . والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضل من الله ، وهو جزاء غالب الحسنات . وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضعف كما في قوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فذلك خاص بالإنفاق في الجهاد . وفي الحديث : . من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة
وقرأ الجمهور : عشر أمثالها بإضافة عشر إلى أمثالها وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وقرأ يعقوب بتنوين عشر ورفع أمثالها ، على أنه صفة لعشر ، أي فله عشر حسنات مماثلة للحسنة التي جاء بها .
ومماثلة الجزاء للحسنة موكولة إلى علم الله تعالى وفضله .
وإنما قال في جانب السيئة " فلا يجزى إلا مثلها " بصيغة الحصر لأجل ما في صيغته من تقديم جانب النفي ، اهتماما به ، لإظهار العدل الإلهي ، فالحصر حقيقي ، وليس في الحصر الحقيقي رد اعتقاد بل هو إخبار عما في نفس الأمر ، ولذلك كان يساويه أن يقال : ومن جاء بالسيئة فيجزى مثلها ، لولا الاهتمام بجانب نفي الزيادة على المماثلة . ونظيره هند بنت عتبة فقالت : إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ، فقال لها : لا إلا بالمعروف ولم يقل لها : أطعميهم بالمعروف . وقد جاء على هذا المعنى قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - حين سألته ; فأكدها بواحدة تحقيقا لعدم الزيادة في جزاء السيئة . ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة
[ ص: 197 ] ولذلك أعقبه بقوله : " وهم لا يظلمون " والضمير يعود إلى من جاء بالسيئة ، إظهارا للعدل ، فلذلك سجل الله عليهم بأن هذا لا ظلم فيه لينصفوا من أنفسهم . وأما عد عود الضميرين إلى الفريقين فلا يناسبه فريق أصحاب الحسنات ، لأنه لا يحسن أن يقال للذي أكرم وأفيض عليه الخير إنه غير مظلوم .