بيان لجملة : لتنذر به بقرينة تذييلها بقوله : قليلا ما تذكرون . فالخطاب موجه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى ، فبعد [ ص: 15 ] أن نوه الله بالكتاب المنزل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم ، وبين أن حكمة إنزاله للإنذار والذكرى ، أمر الناس أن يتبعوا ما أنزل إليهم ، كل يتبع ما هو به أعلق ، والمشركون أنزل إليهم الزجر عن الشرك والاحتجاج على ضلالهم ، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنهي والتكليف . فكل مأمور باتباع ما أنزل إليه ، والمقصود الأجدر هم المشركون تعريضا بأنهم كفروا بنعمة ربهم ، فوصف الرب هنا دون اسم الجلالة : للتذكير بوجوب اتباع أمره ، لأن وصف الربوبية يقتضي الامتثال لأوامره ، ونهاهم عن اتباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه ، والموجه إليهم النهي هم المشركون بقرينة قوله : قليلا ما تذكرون .
والاتباع حقيقته المشي وراء ماش ، فمعناه يقتضي ذاتين : تابعا ومتبوعا ، يقال : اتبع وتبع ، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري وهو استعارة تمثيلية مبنية على تشبيه حالتين ، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قول نحو : ولا تتبعوا خطوات الشيطان وهو استعارة مصرحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى : إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، ومنه قوله هنا : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم .
والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله : كتاب أنزل إليك .
وقوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء تصريح بما تضمنه : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم لأن فيما أنزل إليهم من ربهم أن الله إله واحد لا شريك له ، وأنه الولي ، وأن الذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم ، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلهم ، وغير ذلك من آي القرآن ; والمقصود من هذا النهي تأكيد مقتضى الأمر باتباع ما أنزل إليهم اهتماما بهذا الجانب مما أنزل إليهم ، وتسجيلا على المشركين ، وقطعا لمعاذيرهم أن يقولوا إننا اتبعنا ما أنزل إلينا ، وما نرى أولياءنا إلا شفعاء لنا عند الله فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فإنهم كانوا يموهون [ ص: 16 ] بمثل ذلك ، ألا ترى أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم : " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك " فموقع قوله : اتبعوا ما أنزل إليكم موقع الفصل الجامع من الحد ، وموقع " ولا تتبعوا " موقع الفصل المانع في الحد .
والأولياء جمع ولي ، وهو الموالي ، أي الملازم والمعاون ، فيطلق على الناصر ، والحليف ، والصاحب الصادق المودة ، واستعير هنا للمعبود وللإله : لأن العبادة أقوى أحوال الموالاة ، قال تعالى : أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وقد تقدم عند قوله تعالى : قل أغير الله أتخذ وليا في سورة الأنعام ، وهذا هو المراد هنا . والاتباع في قوله ولا تتبعوا من دونه أولياء يجوز أن يكون مستعملا في المعنى الذي استعمل فيه الاتباع في قوله : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وذلك على تقدير : ولا تتبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله ، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الديانة الضالة إلى الآلهة الباطلة ، أو إلى سدنة الآلهة وكهانها ، كما تقدم عند قوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، وقوله : فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا كما في سورة الأنعام ، وعلى تلك الاعتبارات يجري التقدير في قوله : " أولياء " أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم .
ويجوز أن يكون الاتباع مستعارا للطلب والاتخاذ ، أي لا تتخذوا أولياء غيره نحو قولهم : هو يتبع زلة فلان . وفي الحديث : أي يتطلبها . يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر
و من في قوله : " من دونه " ابتدائية ، و دون ظرف للمكان المجاوز المنفصل ، وقد جر بمن الجارة للظروف ، وهو استعارة للترك والإعراض . [ ص: 17 ] والمجرور في موضع الحال من فاعل تتخذوا ، أي لا تتبعوا أولياء متخذينها دونه ، فإن المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهية ، واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم : كالحج ومناسكه ، والحلف باسمه ، فهم أيضا اتبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبة الدين إليها . فكل عمل تقربوا به إلى الأصنام ، وكل عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام ، فهم عند عمله يكونون متبعين اتباعا فيه إعراض عن الله وترك للتقرب إليه ، فيكون اتباعا من دون الله ، فيدخل في النهي ، وبهذا النهي قد سدت عليهم أبواب الشرك وتأويلاته كقولهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فقد جاء قوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء في أعلى درجة من الإيجاز واستيعاب المقصود .
وأفاد مجموع قوله : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء مفاد صيغة قصر ، كأنه قال : لا تتبعوا إلا ما أمر به ربكم ، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم ، فعدل عن طريق القصر لتكون جملة : ولا تتبعوا من دونه أولياء مستقلة صريحة الدلالة اهتماما بمضمونها على نحو قول السموءل أو الحارثي :
تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل
وجملة : قليلا ما تذكرون هي في موضع الحال من " لا تتبعوا " . وهي حال سببية كاشفة لصاحبها ، وليست مقيدة للنهي : لظهور أن المتبعين أولياء من دون الله ليسوا إلا قليلي التذكر . ويجوز جعل الجملة اعتراضا تذييليا . ولفظ " قليلا " يجوز أن يحمل على حقيقته لأنهم قد يتذكرون ثم يعرضون عن التذكر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون ، ويجوز أن يكون " قليلا " مستعارا لمعنى النفي والعدم على وجه التلميح كقوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون فإن الإيمان لا يوصف بالقلة والكثرة .والتذكر مصدر الذكر - بضم الذال - وهو حضور الصورة في الذهن .
[ ص: 18 ] وقليل مستعمل في العدم على طريقة التهكم بالمضيع للأمر النافع يقال له : إنك قليل الإتيان بالأمر النافع ، تنبيها له على خطئه ، وإنه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حد التقليل دون التضييع له كله .
و ما مصدرية والتقدير : قليلا تذكركم ، ويجوز أن يكون " قليلا " صفة مصدر محذوف دل عليه تذكرون و " ما " مزيدة لتوكيد القلة ، أي نوع قلة ضعيف ، نحو قوله تعالى : أن يضرب مثلا ما . وتقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون في سورة البقرة . والمعنى : لو تذكرتم لما اتبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النهي عن أن تتبعوا من دونه أولياء ، وهذا نداء على إضاعتهم النظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين .
وقرأ الجمهور : ما تذكرون بفوقية واحدة وتشديد الذال على أن أصله تتذكرون بتاءين فوقيتين قلبت ثانيتهما ذالا لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام .
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين اختصارا . وقرأه ابن عامر : يتذكرون بتحتية في أوله ثم فوقية ، والضمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أعرض عنهم ووجه الكلام على غيرهم من السامعين : إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .