قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون
استئناف معترض بين الخطابات المحكية والموجهة ، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهلية فيما حرموه من اللباس والطعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد ، فابتدئ الكلام السابق بأن اللباس نعمة من الله ، وثني بالأمر بإجاب التستر عند كل مسجد ، وثلث بإنكار أن يوجد تحريم اللباس [ ص: 96 ] وافتتاح الجملة بقل دلالة على أنه كلام مسوق للرد والإنكار والمحاورة .
والاستفهام إنكاري قصد به التهكم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة نظير قوله : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا وقوله نبئوني بعلم إن كنتم صادقين وقرينة التهكم : إضافة الزينة إلى اسم الله ، وتعريفها بأنها أخرجها الله لعباده ، ووصف الرزق بالطيبات ، وذلك يقتضي عدم التحريم ، فالاستفهام يؤول أيضا إلى إنكار تحريمها .
ولوضوح انتفاء تحريمها ، وأنه لا يقوله عاقل ، وأن السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم ، أمر السائل بأن يجيب بنفسه سؤال نفسه فعقب ما هو في صورة السؤال بقوله : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا على طريقة قوله : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله في سورة الأنعام ، - وقوله - عم يتساءلون عن النبإ العظيم فآل السؤال وجوابه إلى خبرين .
وضمير " هي " عائد إلى الزينة والطيبات بقطع النظر عن وصف تحريم من حرمها ، أي : الزينة والطيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرمها على أنفسهم فقد حرموا أنفسهم .
واللام في : " للذين آمنوا " لام الاختصاص وهو يدل على الإباحة ، فالمعنى : ما هي بحرام ولكنها مباحة للذين آمنوا ، وإنما حرم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدنيا كلها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها ، وحرم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدنيا مما حرموه على أنفسهم من اللباس في الطواف وفي منى ، ومن أكل اللحوم والودك والسمن واللبن ، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتبعوا أمر الله بتحليل ذلك كله في جميع أوقات الحياة الدنيا .
وقوله : خالصة يوم القيامة قرأه نافع ، وحده : برفع " خالصة " على أنه خبر ثان عن قوله : هي أي : هي لهم في الدنيا وهي لهم خالصة [ ص: 97 ] يوم القيامة ، وقرأه باقي العشرة : بالنصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد ، وهو أن الزينة والطيبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة .
والأظهر أن الضمير المستتر في خالصة عائد إلى الزينة والطيبات الحاصلة في الحياة الدنيا بعينها ، أي هي خالصة لهم في الآخرة ، ولا شك أن تلك الزينة والطيبات قد انقرضت في الدنيا ، فمعنى خلاصها صفاؤها . وكونه في يوم القيامة : هو أن يوم القيامة مظهر صفائها أي خلوصها من التبعات المنجرة منها ، وهي تبعات تحريمها ، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعم بها ، فالمؤمنون لما تناولوها في الدنيا تناولوها بإذن ربهم ، بخلاف المشركين فإنهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدنيا ، لأنهم كفروا نعمة المنعم بها ، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير ، والأمر فيه على قراءة رفع : خالصة أنه إخبار عن هذه الزينة والطيبات بأنها لا تعقب المتمتعين بها تبعات ولا أضرارا . وعلى قراءة النصب فهو نصب على الحال المقدرة .
ويحتمل أن يكون الضمير في خالصة عائدا إلى الزينة والطيبات باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها ، فيكون المعنى : ولهم أمثالها يوم القيامة خالصة .
ومعنى الخلاص التمحض وهو هنا التمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة ، والمقصود أن المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيبات من الرزق يوم القيامة ، أي أنهما في الدنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وأصحابه .
[ ص: 98 ] ومعنى : " كذلك نفصل الآيات " كهذا التفصيل المبتدئ من قوله : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا الآيات أو من قوله : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم . وتقدم نظير هذا التركيب في سورة الأنعام .
والمراد بالآيات الدلائل الدالة على عظيم قدرة الله تعالى ، وانفراده بالإلهية . والدالة على صدق رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ بين فساد دين أهل الجاهلية . وعلم أهل الإسلام علما كاملا لا يختلط معه الصالح والفاسد من الأعمال ، إذ قال : خذوا زينتكم ، وقال وكلوا واشربوا ثم قال : ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدنيا ، فخذلهم حتى وضعوا لأنفسهم شرعا حرمهم من طيبات كثيرة وشوه بهم بين الملأ في الحج بالعراء فكانوا مثل سوء ثم عاقبهم على ذلك في الآخرة ، وإذ وفق المؤمنين لما استعدوا لقبول دعوة رسوله فاتبعوه ، فمتعهم بجميع الطيبات في الدنيا غير محرومين من شيء إلا أشياء فيها ضر علمه الله فحرمها عليهم ، وسلمهم من العقاب عليها في الآخرة .
واللام في قوله : " لقوم يعلمون " لام العلة ، وهو متعلق بفعل ( نفصل ) أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلا قوم يعلمون ، فإن الله لما فصل الآيات يعلم أن تفصيلها لقوم يعلمون ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور ظرفا مستقرا في موضع الحال من الآيات ، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون ، فإن غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا يفقهونها كقوله تعالى : إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون في سورة الأنعام ، أي كذلك التفصيل الذي فصلته لكم هنا نفصل الآيات ويتجدد تفصيلنا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون .
[ ص: 99 ] والمراد بقوم يعلمون : الثناء على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها . والتعريض بجهل وضلال عقول المشركين الذين استمروا على عنادهم وضلالهم ، رغم ما فصل لهم من الآيات .


