الفاء للتفريع على جملة الكلام السابق ، وهذه كالفذلكة لما تقدم لتبين أن صفات الضلال ، التي أبهم أصحابها ، هي حافة بالمشركين المكذبين [ ص: 112 ] برسالة محمد - - عليه الصلاة والسلام - فإن الله ذكر أولياء الشياطين وبعض صفاتهم بقوله : إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وذكر أن الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتبعوا من يجيئهم من الرسل عن الله تعالى بآياته ليتقوا ويصلحوا ، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بنفي الخوف والحزن وأوعدهم على التكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النار ، فقد أعذر إليهم وبصرهم بالعواقب ، فتفرع على ذلك : أن من كذب على الله فزعم أن الله أمره بالفواحش ، أو كذب بآيات الله التي جاء بها رسوله ، فقد ظلم نفسه ظلما عظيما ، حتى يسأل عمن هو أظلم منه .
ولك أن تجعل جملة : فمن أظلم ممن افترى إلخ معترضة بين جملة : ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) وجملة : أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة ، وقد تقدم الكلام على تركيب : " من أظلم ممن " عند قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه في سورة البقرة ، وأن الاستفهام للإنكار ، أي لا أحد أظلم .
والافتراء والكذب تقدم القول فيهما عند قوله تعالى : ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في سورة العقود . ولهذه الآية اتصال بآية : وكم من قرية أهلكناها من حيث ما فيها من التهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله .
و ( من ) استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق ، المعبر عنه بـ ( من افترى على الله كذبا ) . و ( من ) الثانية موصولة ، وهي عامة لكل من تتحقق فيه الصلة ، وإنما كانوا أظلم الناس ولم يكن أظلم منهم ، لأن الظلم اعتداء على حق ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى ، وأعظم الاعتداء على حق الله الاعتداء عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم ، وذلك بأن يكذب بما جاءه من قبله ، أو بأن يكذب عليه فيبلغ عنه ما لم يأمر به فإن جمع بين الأمرين فقد عطل مراد الله تعالى من جهتين : جهة إبطال ما يدل على مراده ، وجهة إيهام الناس بأن الله أراد منهم ما لا يريده الله .
[ ص: 113 ] والمراد بهذا الفريق : هم المشركون من العرب ، فإنهم كذبوا بآيات الله التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أن الله أمرهم به من الفواحش ، كما تقدم آنفا عند قوله تعالى : وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا .
و ( أو ) ظاهرها التقسيم فيكون الأظلم وهم المشركون فريقين : فريق افتروا على الله الكذب ، وهم سادة أهل الشرك وكبراؤهم ، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون ، مثل عمرو بن لحي ، وأبي كبشة ، ومن جاء بعدهما ، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية ، وفريق كذبوا بآيات ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين ، من أهل مكة وما حولها ، وعلى هذا فكل واحد من الفريقين لا أظلم منه ، لأن الفريق الآخر مساو له في الظلم وليس أظلم منه ، فأما من جمع بين الأمرين ممن لعلهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أمورا من الضلالات ، وكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، فهم أشد ظلما ، ولكنهم لما كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم الناس ، وهذا كقوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله . فلا شك أن الجامع بين الخصال الثلاث هو أظلم من كل من انفرد بخصلة منها ، وذلك يوجب له زيادة في الأظلمية ، لأن كل شدة وصف قابلة للزيادة .
ولك أن تجعل ( أو ) بمعنى الواو ، فيكون الموصوف بأنه أظلم الناس هو من اتصف بالأمرين الكذب والتكذيب ، ويكون صادقا على المشركين لأن جماعتهم لا تخلو عن ذلك .
جيء باسم الإشارة في قوله : أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ليدل على أن المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناء على ما دل عليه التفريع بالفاء .
[ ص: 114 ] وجملة أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الاستفهام في قوله : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا الآية ، لأن التهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السامع أن يسأل عما سيلاقونه من الله الذي افتروا عليه وكذبوا بآياته .
ويجوز أن تكون جملة : ( أولئك ينالهم نصيبهم ) عطف بيان لجملة : ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب .
وتكملة هذه الجملة هي جملة : حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم " الآية كما سيأتي .
ومادة النيل والنوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللغة ، غير مفصحة عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائي ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأن ذلك نشأ من القلب في بعض التصاريف أو من تداخل اللغات ، وتقول نلت - بضم النون - من نال ينول ، وتقول نلت - بكسر النون - من نال ينيل ، وأصل النيل إصابة الإنسان شيئا لنفسه بيده ، ونوله أعطاه فنال ، فالأصل أن تقول نال فلان كسبا ، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأن النصيب من الكتاب هو أمر معنوي ، فمقتضى الظاهر أن يكون النصيب منولا لا نائلا ، لأن النصيب لا يحصل الذين افتروا على الله كذبا ، بل بالعكس : الذين افتروا يحصلونه ، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها وقوله سينالهم غضب من ربهم ، فتعين أن يكون هذا إما مجازا مرسلا في معنى مطلق الإصابة ، وإما أن يكون استعارة مبنية على عكس التشبيه بأن شبه النصيب بشخص طالب طلبة فنالها ، وإنما يصار إلى هذا للتنبيه على أن الذي ينالهم شيء يكرهونه ، وهو يطلبهم وهم يفرون منه ، كما يطلب العدو عدوه ، فقد صار النصيب من الكتاب كأنه يطلب أن يحصل الفريق [ ص: 115 ] الذين حق عليهم ويصادفهم ، وهو قريب من القلب المبني على عكس التشبيه في قول رؤبة :
ومهمه مغبرة أرجـاؤه كأن لون أرضه سماؤه
وقولهم : عرضت الناقة على الحوض .والنصيب : الحظ الصائر لأحد المتقاسمين من الشيء المقسوم . وقد تقدم عند قوله تعالى : أولئك لهم نصيب مما كسبوا في سورة البقرة ، وقوله : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون في سورة النساء .
والمراد بالكتاب ما تضمنه الكتاب ، فإن كان الكتاب مستعملا حقيقة فهو القرآن ، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده ، مثل قوله تعالى آنفا : والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، وإن كان الكتاب مجازا في الأمر الذي قضاه الله وقدره ، على حد قوله : لكل أجل كتاب أي الكتاب الثابت في علم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم ، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنه قدره لهم من الخلود في العذاب عليهم ، وأنه لا يغفر لهم ، ويشمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثم استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفا بقوله : ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . وحمل كثير من المفسرين النصيب على ما ينالهم من الرزق والإمهال في الدنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله : ( فمن أظلم ) ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلا ليكون نوال النصيب حاصلا في مدة ممتدة ليكون مجيء الملائكة لتوفيهم غاية لانتهاء ذلك النصيب ، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقية في حتى . وذلك غير ملتزم ، فإن حتى الابتدائية لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره .
والمعنى : إما أن كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه ، فنصيبه هو ما يناسب حاله [ ص: 116 ] عند الله من مقدار عذابه ، وإما أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قدر لأمثالهم من الأمم المكذبين للرسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدنيا ، فلا يغرنهم تأخير ذلك لأنه مصيبهم لا محالة عند حلول أجله ، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذبت بها الأمم .
وجملة : حتى إذا جاءتهم رسلنا تفصيل لمضمون جملة ينالهم نصيبهم من الكتاب . فالوقت الذي أفاده قوله : إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لقوه في الدنيا .
و ( حتى ) ابتدائية لأن الواقع بعدها جملة فتفيد السببية ، فالمعنى : فـ إذا جاءتهم رسلنا إلخ ، وحتى الابتدائية لها صدر الكلام فالغاية التي تدل عليها هي غاية ما يخبر به المخبر ، وليست غاية ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتى ، لأن ذلك إنما يلتزم إذا كانت حتى عاطفة ، ولا تفيد إلا السببية كما قال فهي لا تفيد أكثر من تسبب ما قبلها فيما بعدها ، قال ابن الحاجب الرضي; قال المصنف : وإنما وجب مع الرفع السببية لأن الاتصال اللفظي لما زال بسبب الاستئناف شرط السببية التي هي موجبة للاتصال المعنوي ، جبرا لما فات من الاتصال اللفظي ، قال عمرو بن شأس :
نذود الملوك عنـكـم وتـذودنـا ولا صلح حتى تضبعون ونضبعا
وجملة : ( يتوفونهم ) في موضع الحال من رسلنا وهي حال معللة لعاملها ، كقوله : ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم أي رسول لأبلغكم ولأنصح لكم .
والتوفي نزع الروح من الجسد ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك في سورة آل عمران وهو المراد هنا ، ولا جدوى في حمله على غير هذا المعنى ، مما تردد فيه المفسرون ، إلا أن المحافظة على معنى الغاية لحرف ( حتى ) فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعا ، إن كان المراد بالنصيب من الكتاب الاستئصال ، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمة الشرك .
ويجوز أن يكون المراد حين يتوفون آحادهم في أوقات متفرقة إن كان المراد بالنصيب من الكتاب وعيد العذاب ، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمع والمراد منه التوزيع أي قال كل ملك لمن وكل بتوفيه ، على طريقة : ركب القوم دوابهم . وقد حكي كلام الرسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة ، لأن وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد .
والاستفهام في قوله : أين ما كنتم تدعون من دون الله مستعمل في التهكم والتأييس .
و ( ما ) الواقعة بعد أين موصولة ، يعني : أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنهم ينفعونكم عند الشدائد ويردون عنكم العذاب فإنهم لم يحضروكم ، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أرواحهم ، فقد جاء [ ص: 118 ] في حديث الموطأ : إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله الميت يرى مقعده بالغداة والعشي . أن
وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر .
وقولهم : ضلوا عنا أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا ، وهذا يقتضي أنهم لما يعلموا أنهم لا يغنون عنهم شيئا من النفع ، فظنوا أنهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم ، ولم يعلموا سببه ، لأن ذلك إنما يتبين لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم ، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنهم كانوا يدعونهم من دون الله بخلاف ما حكي عنهم في يوم الحشر من قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين . ولذلك قال هنا : وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ، وقال في الأخرى : انظر كيف كذبوا على أنفسهم .
والشهادة هنا شهادة ضمنية لأنهم لما لم ينفوا أن يكونوا يدعون من دون الله وأجابوا بأنهم ضلوا عنهم قد اعترفوا بأنهم عبدوهم .
فأما قوله : قال ادخلوا في أمم " فهذا قول آخر ، ليس هو من المحاورة السابقة ، لأنه جاء بصيغة الإفراد ، والأقوال قبله مسندة إلى ضمائر الجمع ، فتعين أن ضمير ( قال ) عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام ، لأن مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى ، فهو استئناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حين أول قدومهم على الحياة الآخرة ، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيكون خطابا صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته ، أو بكلام سمعوه وعلموا أنه من قبل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنهم داخلون إلى النار ، فيكون هذا من أشد ما يرون فيه مقعدهم من النار عقوبة خاصة بهم .
والأمر مستعمل للوعيد فيتأخر تنجيزه إلى يوم القيامة .
ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النار مع الأمم السابقة ، فذكر عقب حكاية حال قبض [ ص: 119 ] أرواحهم إكمالا لذكر حال مصيرهم ، وتخلصا إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم ، وأيا ما كان فالإتيان بفعل القول ، بصيغة الماضي : للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر .
ويجوز أن تكون جملة : قال ادخلوا في أمم في موضع عطف البيان لجملة ينالهم نصيبهم من الكتاب أي : قال الله فيما كتبه لهم ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم أي أمثالكم ، والتعبير بفعل المضي جرى على مقتضى الظاهر .
والأمم جمع الأمة بالمعنى الذي تقدم في قوله : ولكل أمة أجل .
و ( في ) من قوله : " في أمم " للظرفية المجازية ، وهي كونهم في حالة واحدة وحكم واحد ، سواء دخلوا النار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بعدهم ، وهي بمعنى مع في تفسير المعنى ، ونقل عن صاحب الكشاف أنه نظر " في " التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة :
إن تكن عن حسن الصنيعة مأفو كا ففي آخرين قد أفـكـوا