وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق ، مع أن مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين ، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلا لمسرة السامعين من المؤمنين بأن عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرسول والمؤمنين ، فذلك التقديم يفيد التعريض بالنذارة ، وإلا فإن الإغراق وقع قبل الإنجاء ، إذ لا يظهر تحقق نوح ومن معه إلا بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به ، فالمعقب به التكذيب ابتداء هو [ ص: 198 ] الإغراق ، والإنجاء واقع بعده ، وليتأتى هذا التقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع ، دون الفاء . إنجاء
وقوله في الفلك متعلق بمعنى قوله معه لأن تقديره : استقروا معه في الفلك ، وبهذا التعليق علم أن الله أمره أن يحمل في الفلك معشرا ، وأنهم كانوا مصدقين له ، فكان هذا التعليق إيجازا بديعا .
والفلك تقدم في قوله تعالى إن في خلق السماوات والأرض في سورة البقرة .
والذين معه هم الذين آمنوا به ، وسنذكر تعيينهم عند الكلام على قصته في سورة هود .
والإتيان بالموصول في قوله وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا دون أن يقال : وأغرقنا سائرهم ، أو بقيتهم ، لما تؤذن به الصلة من وجه تعليل الخبر في قوله وأغرقنا أي أغرقناهم لأجل تكذيبهم .
وجملة إنهم كانوا قوما عمين تتنزل منزلة العلة لجملة أغرقنا كما دل عليه حرف إن لأن حرف إن هنا لا يقصد به رد الشك والتردد ، إذ لا شك فيه ، وإنما المقصود من الحرف الدلالة على الاهتمام بالخبر ، ومن شأن إن إذا جاءت للاهتمام أن تقوم مقام فاء التفريع ، وتفيد التعليل وربط الجملة بالتي قبلها . ففصل هذه الجملة كلا فصل .
و عمين جمع عم جمع سلامة بواو ونون . وهو صفة على وزن فعل مثل أشر ، مشتق من العمى ، وأصله فقدان البصر ، ويطلق مجازا على فقدان الرأي النافع ، ويقال : عمى القلب ، وقد غلب في الكلام تخصيص الموصوف بالمعنى المجازي بالصفة المشبهة لدلالتها على ثبوت الصفة ، وتمكنها بأن تكون سجية وإنما يصدق ذلك في فقد الرأي ، لأن المرء يخلق عليه غالبا ، بخلاف فقد البصر ، ولذلك قال تعالى هنا عمين ولم يقل عميا كما [ ص: 199 ] قال في الآية الأخرى عميا وبكما وصما ومثله قول زهير :
ولكنني عن علم ما في غد عم
والذين كذبوا كانوا عمين لأن قادتهم داعون إلى الضلالة مؤيدونها ، ودهماؤهم متقبلون تلك الدعوة سماعون لها .وقد دلت هذه القصة على معنى عظيم في إرادة الله تعالى تطور الخلق الإنساني : فإن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق له الحس الظاهر والحس الباطن ، فانتفع باستعمال بعض قواه الحسية في إدراك أوائل العلوم ، ولكنه استعمل بعض ذلك فيما جلب إليه الضر والضلال ، وذلك باستعمال القواعد الحسية فيما غاب عن حسه وإعانتها بالقوى الوهمية والمخيلة ، ففكر في خالقه وصفاته فتوهم له أندادا وأعوانا وعشيرة وأبناء وشركاء في ملكه ، وتفاقم ذلك في الإنسان مع مرور الأزمان حتى عاد عليه بنسيان خالقه ، إذ لم يدخل العلم به تحت حواسه الظاهرة ، وأقبل على عبادة الآلهة الموهومة حيث اتخذ لها صورا محسوسة ، فأراد الله إصلاح البشر وتهذيب إدراكهم ، فأرسل إليهم نوحا فآمن به قليل من قومه وكفر به جمهورهم ، فأراد الله انتخاب الصالحين من البشر الذين قبلت عقولهم الهدى ، وهم نوح ومن آمن به ، واستئصال الذين تمكنت الضلالة من عقولهم لينشئ من الصالحين ذرية صالحة ويكفي الإنسانية فساد الضالين ، كما قال نوح إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، فكانت بعثة نوح وما طرأ عليها تجديدا لصلاح البشر وانتخابا للأصلح .