وتقدم الكلام على الملأ آنفا في القصص الماضية . فملأ قوم فرعون هم سادتهم وهم أهل مجلس فرعون ومشورته ، وقد كانت دعوة موسى أول الأمر قاصرة على [ ص: 42 ] فرعون في مجلسه فلم يكن بمرأى ومسمع من العامة لأن الله - تعالى - قال في آية أخرى اذهبا إلى فرعون إنه طغى وقال في هذه الآية إلى فرعون وملئه وإنما أشهرت دعوته في المرة الآتية بعد اجتماع السحرة .
وإنما قالوا هذا الكلام على وجه الشورى مع فرعون واستنباط الاعتذار لأنفسهم عن قيام حجة موسى في وجوههم فاعتلوا لأنفسهم بعضهم لبعض بأن موسى إنما هو ساحر عليم بالسحر أظهر لهم ما لا عهد لهم بمثله من أعمال السحرة ، وهذا القول قد أعرب عن رأي جميع أهل مجلس فرعون ، ففرعون كان مشاركا لهم في هذا لأن القرآن حكى عن فرعون في غير هذه السورة أنه قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم ، وهذه المعذرة قد انتحلوها وتواطئوا عليها تبعوا فيها ملكهم أو تبعهم فيها ، فكل واحد من أهل ذلك المجلس قد وطن نفسه على هذا الاعتذار ولذلك فالخطاب في قوله يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون خطاب بعضهم لبعض وهو حاصل من طوائف ذلك الملأ لطوائف يرددونه بينهم ويقوله بعضهم لبعض .
ووجه استفادتهم أن موسى يريد إخراجهم من أرضهم ، إما أنهم قاسوا ذلك عن قول موسى فأرسل معي بني إسرائيل بقاعدة ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، يعنون أنه ما أظهر إخراج بني إسرائيل إلا ذريعة لإخراج كل من يؤمن به ليتخذهم تبعا ويقيم بهم ملكا خارج مصر ، فزعموا أن تلك مكيدة من موسى لثلم ملك فرعون .
وإما أن يكون ملأ فرعون محتويا على رجال من بني إسرائيل كانوا مقربين عند فرعون ومن أهل الرأي في المملكة ، فهم المقصود بالخطاب ، أي : يريد إخراج قومكم من أرضكم التي استوطنتموها أربعة قرون وصارت لكم موطنا كما هي للمصريين ، ومقصدهم من ذلك تذكيرهم بحب وطنهم ، وتقريبهم من أنفسهم ، وإنساؤهم ما كانوا يلقون من اضطهاد القبط واستذلالهم ، شعورا منهم بحراجة الموقف .
وإما أنهم علموا أنه إذا شاع في الأمة موسى وعجز فرعون وملئه أدخل ذلك فتنة في عامة الأمة فآمنوا ظهور حجة بموسى وأصبح هو الملك على مصر فأخرج فرعون وملأه منها .
ويجوز أن يكون الملأ خاطبوا بذلك فرعون . فجرت ضمائر الخطاب في قوله أن يخرجكم من أرضكم على صيغة الجمع تعظيما للملك كما في قوله - تعالى - [ ص: 43 ] قال رب ارجعون وهذا استعمال مطرد .
والأمر حقيقته طلب الفعل ، فمعنى فماذا تأمرون ماذا تطلبون أن نفعل ، وقال جماعة من أهل اللغة : غلب استعمال الأمر في الطلب الصادر من العلي إلى من دونه فإذا التزم هذا كان إطلاقه هنا على وجه التلطف مع المخاطبين ، وأيا ما كان فالمقصود منه الطلب على وجه الإفتاء والاشتوار لأن أمرهم لا يتعين العمل به ، فإذا كان المخاطب فرعون على ما تقدم ، كان مرادا من الأمر الطلب الذي يجب امتثاله كما قال ملأ بلقيس : فانظري ماذا تأمرين .
والساحر فاعل السحر : وتقدم الكلام على السحر عند قوله - تعالى - يعلمون الناس السحر في سورة البقرة .
وجملة قالوا أرجه جواب القوم المستشارين ، فتجريدها من حرف العطف لجريانها في طريق المحاورة ، أي : فأجاب بعض الملأ بإبداء رأي لفرعون فيما يتعين عليه اتخاذه ، ويجوز أن تكون جملة ( قالوا أرجه ) بدلا من جملة قال الملأ من قوم فرعون بإعادة فعل القول وهو العامل في المبدل منه إذا كان فرعون هو المقصود بقولهم فماذا تأمرون .
وفعل ( أرجه ) أمر من الإرجاء وهو التأخير . قرأه نافع ، وعاصم ، والكسائي وأبو جعفر : أرجه بجيم ثم هاء وأصله " أرجئه " بهمزة بعد الجيم فسهلت الهمزة تخفيفا ، فصارت ياء ساكنة ، وعوملت معاملة حرف العلة في حالة الأمر . وقرأه الباقون بالهمز ساكنا على الأصل ، ولهم في حركات هاء الغيبة وإشباعها وجوه مقررة في علم القراءات .
والمعنى : أخر المجادلة مع موسى إلى إحضار السحرة الذين يدافعون سحره . وحكى القرآن ذكر الأخ هنا للإشارة إلى أنه طوي ذكره في أول القصة ، وقد ذكر في غير هذه القصة ابتداء .
وعدي فعل الإرسال بــ ( في ) دون ( إلى ) لأن الفعل هنا غير مقصود تعديته إلى المرسل إليهم بل المقصود منه المرسلون خاصة ، وهو المفعول الأول ، إذ المعنى : وأرسل حاشرين في المدائن يأتوك بالسحرة ، فعلم أنهم مرسلون للبحث والجلب ، لا للإبلاغ [ ص: 44 ] وهذا قريب من قوله - تعالى - فأرسلنا فيهم رسولا منهم في سورة المؤمنين . قال في الكشاف هنالك لم يعد الفعل بفي مثل ما يعدى بإلى ، ولكن الأمة جعلت موضعا للإرسال كما قال رؤبة :
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام
وقد جاء ( بعث ) على ذلك في قوله ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا . وقد تقدم آنفا قريب منه عند قوله - تعالى - ( ما أرسلنا في قرية من نبيء )والمدائن : جمع مدينة ، وهي بوزن فعيلة ، مشتقة من مدن بالمكان إذا أقام ، ولعل " مدن " هو المشتق من المدينة لا العكس ، وأيا ما كان فالأظهر أن ميم مدينة أصلية ولذلك جمعت على مدائن بالهمزة كما قالوا " صحائف " جمع صحيفة ، ولو كانت مفعلة من دانه لقالوا في الجمع مداين بالياء مثل معايش .
ومداين مصر في ذلك الزمن كثيرة وسنذكر بعضها عند قوله - تعالى - فأرسل فرعون في المدائن حاشرين في سورة الشعراء .
قيل أرادوا مدائن الصعيد وكانت مقر العلماء بالسحر .
والحاشرون الذين يحشرون الناس ويجمعونهم .
والشأن أن يكون ملأ فرعون عقلاء أهل سياسة ، فعلموا أن أمر دعوة موسى لا يكاد يخفى ، وأن فرعون إن سجنه أو عاند ، تحقق الناس أن حجة موسى غلبت ، فصار ذلك ذريعة للشك في دين فرعون ، فرأوا أن يلاينوا موسى ، وطمعوا أن يوجد في سحرة مصر من يدافع آيات موسى ، فتكون الحجة عليه ظاهرة للناس .
وجزم ( يأتوك ) على جواب الأمر للدلالة على شدة اتصال السببية بين الإرسال والإتيان ، فالتقدير : إن ترسل يأتوك ، وقد قيل : في مثله إنه مجزوم بلام الأمر محذوفة ، على أن الجملة بدل من أرسل بدل اشتمال ، أي : أرسلهم آمرا لهم فليأتوك بكل ساحر عليم ، وهذا الاستعمال كثير في كلام العرب مع فعل القول نحو [ ص: 45 ] قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة فكذلك ما كان فيه معنى القول كما هنا .
و كل مستعمل في معنى الكثرة ، أي : بجمع عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع .
وقرأ الجمهور : بكل ساحر ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : " بكل سحار " ، على المبالغة في معرفة السحر ، فيكون وصف عليم تأكيدا لمعنى المبالغة لأن وصف عليم الذي هو من أمثلة المبالغة للدلالة على قوة المعرفة بالسحر ، وحذف متعلق عليم لأنه صار بمنزلة أفعال السجايا . والمقام يدل على أن المراد قوة علم السحر له .