عطف على فغلبوا و انقلبوا ، فهو في حيز فاء التعقيب ، أي : حصل ذلك كله عقب ، أي : بدون مهلة ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، فسجود السحرة متأخر عن مصيرهم صاغرين ، ولكنه متأخر بزمن قليل وهو زمن انقداح الدليل على صدق موسى في نفوسهم ، فإنهم كانوا أعلم الناس بالسحر فلا يخفى عليهم ما هو خارج عن الأعمال السحرية ، ولذلك لما رأوا تلقف عصا تلقف العصا ما يأفكون موسى لحبالهم وعصيهم جزموا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر ، فعلموا أنه تأييد من الله لموسى وأيقنوا أن ما دعاهم إليه موسى حق ، فلذلك سجدوا ، وكان هذا خاصا بهم دون بقية الحاضرين ، فلذلك جيء بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يلتبس بالضمير الذي قبله الذي هو شامل للسحرة وغيرهم .
والإلقاء : مستعمل في سرعة الهوي إلى الأرض ، أي : لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد .
وبني فعل الإلقاء للمجهول لظهور الفاعل ، وهو أنفسهم ، والتقدير : وألقوا أنفسهم على الأرض .
و ( ساجدين ) حال ، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم ، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذ بظهور معجزة موسى - عليه السلام - والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين .
[ ص: 53 ] وجملة قالوا بدل اشتمال من جملة ألقي السحرة لأن الهوي للسجود اشتمل على ذلك القول ، وهم قصدوا من قولهم ذلك الإعلان بإيمانهم بالله لئلا يظن الناس أنهم سجدوا لفرعون ، إذ ، ولذلك وصفوا الله بأنه رب العالمين بالعنوان الذي دعا به كانت عادة القبط السجود لفرعون موسى - عليه السلام - ، ولعلهم لم يكونوا يعرفون اسما علما لله - تعالى - ، إذ لم يكن لله اسم عندهم ، وقد علم بذلك أنهم كفروا بإلاهية فرعون .
وزادوا هذا القصد بيانا بالإبدال من رب العالمين قولهم رب موسى وهارون لئلا يتوهم المبالغة في وصف فرعون بأنه رب جميع العالمين ، وتعين في تعريف البدل طريق تعريف الإضافة لأنها أخصر طريق ، وأوضحه هنا ، لا سيما إذا لم يكونوا يعرفون اسما علما على الذات العلية . وهذا ما يقتضيه تعليم الله اسمه لموسى حين كلمه فقال إنني أنا الله في سورة ( طه ) . وفي سفر الخروج : وقال الله لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل ( يهوه ) إله آبائكم ، إلخ الاصحاح الثالث .
وفصلت جملة قال فرعون لوقوعها في طريق المحاورة .
وقوله أآمنتم قرأه الجمهور بصيغة الاستفهام بهمزتين فمنهم من حققها ، وهم : حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وروح عن يعقوب ، وخلف ، ومنهم من سهل الثانية مدة ، فصار بعد الهمزة الأولى مدتان ، وهؤلاء هم : نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وقرأه حفص عن عاصم بهمزة واحدة فيجوز أن يكون إخبارا ، ويجوز أن تكون همزة الاستفهام محذوفة وما ذلك ببدع .
والاستفهام للإنكار والتهديد مجازا مرسلا مركبا ، والإخبار مستعمل كذلك أيضا لظهور أنه لا يقصد حقيقة الاستفهام ولا حقيقة الإخبار لأن المخاطبين صرحوا بذلك وعلموه ، والضمير المجرور بالباء عائد إلى موسى . أي : آمنتم بما قاله ، أو إلى رب موسى .
وجملة إن هذا لمكر إلخ . . . خبر مراد به لازم الفائدة أي : ولقد علمت مرادكم لأن المخاطب لا يخبر بشيء صدر منه . كقول عنترة :
إن كنت أزمعت الفراق فإنما زمت ركابكم بليل مظـلـم
أي : إن كنت أخفيت عني عزمك على الفراق فقد علمت أنكم شددتم رحالكم بليل لترحلوا خفية .[ ص: 54 ] وقوله قبل أن آذن لكم ترق في موجب التوبيخ ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان ، وفصلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ .
والمكر تقدم عند قوله - تعالى - ومكروا ومكر الله في سورة آل عمران ، وتقدم آنفا عند قوله - تعالى - أفأمنوا مكر الله .
والضمير المنصوب في مكرتموه ضمير المصدر المؤكد لفعله .
وفي : ظرفية مجازية : جعل مكرهم كأنه موضوع في المدينة كما يوضع العنصر المفسد ، أي : أردتم إضرار أهلها ، وليست ظرفية حقيقية لأنها لا جدوى لها إذ معلوم لكل أحد أن مكرهم وقع في تلك المدينة . وفسره في الكشاف بأنهم دبروه في المدينة حين كانوا بها قبل الحضور إلى الصحراء التي وقعت فيها المحاورة ، وقد تبين أن المراد بالظرفية ما ذكرناه بالتعليل الذي بعدها في قوله لتخرجوا منها أهلها والمراد - هنا - بعض أهلها ، وهم بنو إسرائيل ؛ لأن موسى جاء طلبا لإخراج بني إسرائيل كما تقدم .
وقول فرعون هذا يحتمل أنه قاله موافقا لظنه على سبيل التهمة لهم لأنه لم يكن له علم بدقائق علم السحر حتى يفرق بينه وبين المعجزة الخارقة للعادة ، فظن أنها مكيدة دبرها موسى مع السحرة ، وأنه لكونه أعلمهم أو معلمهم أمرهم فأتمروا بأمره ، كما في الآية الأخرى إنه لكبيركم الذي علمكم السحر .
ويحتمل أنه قاله تمويها وبهتانا ليصرف الناس عن اتباع السحرة ، وعن التأثر بغلبة موسى إياهم فيدخل عليهم شكا في دلالة الغلبة واعتراف السحرة بها ، وأن ذلك مواطأة بين الغالب والمغلوب لغاية مقصودة ، وهو موافق في قوله هذا لما كان أشار به الملأ من قومه حين قالوا يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره وأيا ما كان فعزمه على تعذيبهم مصير إلى الظلم والغشم ؛ لأنه ما كان يحق له أن يأخذهم بالتهمة ، بل له أن يعاقبهم على المصير إلى الحجة ، ولكنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت .
وفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيد بقوله فسوف تعلمون ، وحذف مفعول تعلمون لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب ، ثم بينه بجملة لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف . ووقوع الجمع معرفا بالإضافة يكسبه العموم فيعم [ ص: 55 ] كل يد وكل رجل من أيدي وأرجل السحرة .
و ( من ) في قوله من خلاف ابتدائية لبيان موضع القطع بالنسبة إلى العضو الثاني ، وقد تقدم بيان نظيرها عند قوله - تعالى - أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف في سورة المائدة . فالمعنى : أنه يقطع من كل ساحر يدا ورجلا متخالفتي الجهة غير متقابلتيها ، أي : إن قطع يده اليمنى قطع رجله اليسرى والعكس ، وإنما لم يقطع القوائم الأربع لأن المقصود بقاء الشخص متمكنا من المشي متوكئا على عود تحت اليد من جهة الرجل المقطوعة .
ودلت ( ثم ) على الارتقاء في الوعيد بالصلب ، والمعروف أن الصلب أن يقتل المرء مشدودا على خشبة ، وتقدم في قوله وما قتلوه وما صلبوه في سورة النساء ، وعلى هذا يكون توعدهم بنوعين من العذاب ، والوعيد موجه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين : فريق يعذب بالقطع من خلاف ، وفريق يعذب بالصلب والقتل ، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم ، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذ ، ويحتمل أن يراد بالصلب : الصلب دون قتل ، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالا ينذعر بهم الناس ، كيلا يقدم أحد على عصيان أمره من بعد ، فتكون ثم دالة على الترتيب والمهلة ، ولعل المهلة قصد منها مدة كي واندمال موضع القطع ، وهذا هو المناسب لظاهر قوله أجمعين المفيد أن الصلب ينالهم كلهم .
وفصلت جملة قالوا إنا إلى ربنا منقلبون لوقوعها في سياق المحاورة .
والانقلاب : الرجوع وقد تقدم قريبا ، وهذا جواب عن وعيد فرعون بأنه وعيد لا يضيرهم ، لأنهم يعلمون أنهم صائرون إلى الله رب الجميع ، وقد جاء هذا الجواب موجزا إيجازا بديعا ؛ لأنه يتضمن أنهم يرجون ، ويرجون منه مغفرة ذنوبهم ، ويرجون العقاب لفرعون على ذلك ، وإذا كان المراد بالصلب القتل وكان المراد تهديد جميع المؤمنين ، كان قولهم إنا إلى ربنا منقلبون تشوقا إلى حلول ذلك بهم محبة للقاء الله - تعالى - ، فإن الله - تعالى - لما هداهم إلى الإيمان أكسبهم محبة لقائه ، ثم بينوا أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه ، لأنه لم يكن عن جناية تصمهم بل كان على الإيمان بآيات الله لما ظهرت لهم . أي : فإنك لا [ ص: 56 ] تعرف لنا سببا يوجب العقوبة غير ذلك . ثواب الله على ما ينالهم من عذاب فرعون
والنقم : بسكون القاف وبفتحها ، الإنكار على الفعل ، وكراهة صدوره ، وحقد على فاعله ، ويكون باللسان وبالعمل ، وفعله من باب ضرب وتعب ، والأول أفصح ، ولذلك قرأه الجميع وما تنقم بكسر القاف .
والاستثناء في قولهم إلا أن آمنا بآيات ربنا متصل ؛ لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم ، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده .
وجملة ربنا أفرغ علينا صبرا من تمام كلامهم ، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله - تعالى - ، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها .
ومعنى قوله ربنا أفرغ علينا صبرا اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون .
ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبرا قويا ، يفوق المتعارف ، فشبه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس ، على طريقة الاستعارة المكنية ، وشبه خلقه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية ، فإن الإفراغ صب جميع ما في الإناء ، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه ، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية .
وتقدم نظيره في قوله - تعالى - قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا في سورة البقرة .
ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذانا بأنهم غير راغبين في الحياة ، ولا مبالين بوعيد فرعون ، وأن همتهم لا ترجو إلا النجاة في الآخرة ، والفوز بما عند الله ، وقد انخذل بذلك فرعون ، وذهب وعيده باطلا ، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة .
والقرآن لم يتعرض هنا ، ولا في سورة الشعراء ، ولا في سورة طه ، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو . تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنة
[ ص: 57 ] وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ، فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية .
والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يرد جوابا .
وذكرهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيون والصديقون من عهد إبراهيم - عليه السلام - .
والظاهر أن كلمة مسلمين تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين ، وهي التي يجمع لفظ الإسلام تفصيلها ، وقد تقدم شرح معنى كون عند قوله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون في سورة البقرة . الإسلام وهو دين الأنبياء