يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه ، فتكون جملة سأصرف إلخ بأنهم ، استئنافا بيانيا ؛ لأن بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخشون فكأنهم تساءلوا كيف ترينا دارهم وتعدنا بها ، وهل لا نهلك قبل الحلول بها ، كما حكى الله عنهم ( قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ) الآية في سورة العقود وقد حكى ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد ، فأجيبوا بأن الله سيصرف أولئك عن آياته .
والصرف الدفع أي سأصد عن آياتي ، أي عن تعطيلها وإبطالها .
والآيات الشريعة ، ووعد الله أهلها بأن يورثهم أرض الشام ، فيكون المعنى سأتولى دفعهم عنكم ، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين " ها أنا طارد من قدامك الأموريين إلخ " ، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومه بما يهئ لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء ، كإلقاء الرعب في قلوبهم ، وتشتيت كلمتهم ، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عدتهم . أو تكون الجملة جوابا لسؤال من يقول : إذا دخلنا أرض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا ، ويتبعون ديننا فلا نحتاج إلى قتالهم ، فأجيبوا بأن الله يصرفهم عن اتباع آياته لأنهم جبلوا على التكبر في الأرض ، والإعراض عن الآيات ، فالصرف [ ص: 104 ] هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام ، وعن الحسن : إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مات قلبه .
وفي قص الله - تعالى - هذا الكلام على محمد - صلى الله عليه وسلم - تعريض بكفار العرب بأن الله دافعهم عن تعطيل آياته ، وبأنه مانع كثيرا منهم عن الإيمان بها لما ذكرناه آنفا .
ويجوز أن تكون جملة ( سأصرف عن آياتي ) من خطاب الله - تعالى - لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - روى ذلك عن الطبري فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة سفيان بن عيينة ، بني إسرائيل بمناسبة قوله سأريكم دار الفاسقين تعريضا بأن حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين ، وتصريحا بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، وتأتي في معنى الصرف عن الآيات الوجوه السابقة واقتران فعل سأصرف بسين الاستقبال القريب تنبهه على أن الله يعجل ذلك الصرف .
وتقديم المجرور على مفعول ( أصرف ) للاهتمام بالآيات ، ولأن ذكره عقب الفعل المتعلق هو به أحسن .
وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف . وهي ما تضمنته الصلات المذكورة ؛ لأن من صارت تلك الصفات حالات له ينصره الله ، أو لأنه إذا صار ذلك حاله رين على قلبه ، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات . وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف .
والأوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتم الانطباق .
والتكبر الاتصاف بالكبر . وقد صيغ له الصيغة الدالة على التكلف ، وقد بينا ذلك عند قوله - تعالى - ( أبى واستكبر ) وقوله ( استكبرتم ) في سورة البقرة ، والمعنى : أنهم يعجبون بأنفسهم ، ويعدون أنفسهم عظماء فلا يأتمرون لآمر ، ولا ينتصحون لناصح .
وزيادة قوله في الأرض لتفضيح تكبرهم ، والتشهير بهم بأن كبرهم مظروف في الأرض ، أي ليس هو خفيا مقتصرا على أنفسهم ، بل هو مبثوث في الأرض ، أي [ ص: 105 ] مبثوث أثره ، فهو تكبر شائع في بقاع الأرض كقوله يبغون في الأرض بغير الحق وقوله ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وقوله ولا تمش في الأرض مرحا وقول مرة بن عداء الفقعسي .
فهلا أعدوني لمثـلـي تـفـاقـدوا وفي الأرض مبثوث شجاع وعقرب
وقوله بغير الحق زيادة لتشنيع التكبر بذكر ما هو صفة لازمة له ، وهو مغايرة الحق ، أي : باطل وهي حال لازمة للتكبر ، كاشفة لوصفه ، إذ التكبر لا يكون بحق في جانب الخلق ، وإنما هو وصف لله بحق لأنه العظيم على كل موجود ، وليس تكبر الله بمقصود أن يحترز عنه هنا حتى يجعل القيد بغير الحق للاحتراز عنه ، كما في الكشاف .
ومن المفسرين من حاول جعل قوله بغير الحق قيدا للتكبر ، وجعل من التكبر ما هو حق ؛ لأن للمحق أن يتكبر على المبطل ، ومنه المقالة المشهورة " الكبر على المتكبر صدقة " وهذه المقالة المستشهد بها جرت على المجاز أو الغلط .
وقوله بها وإن يروا كل آية لا يؤمنوا عطف على قوله يتكبرون فهو في حكم الصلة ، والقول فيه كالقول في قوله لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية في سورة يونس وكل مستعملة في معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله - تعالى - ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية في سورة البقرة .
والسبيل مستعار لوسيلة الشيء بقرينة إضافته إلى الرشد وإلى الغي .
والرؤية مستعارة للإدراك .
والاتخاذ حقيقته مطاوع أخذه بالتشديد ، إذا جعله آخذا ، ثم أطلق على أخذ الشيء ولو لم يعطه إياه غيره ، وهو هنا مستعار للملازمة ، أي لا يلازمون طريق الرشد ، ويلازمون طريق الغي .
والرشد : الصلاح وفعل النافع ، وقد تقدم في قوله - تعالى - فإن آنستم منهم رشدا في سورة النساء والمراد به هنا : الشيء الصالح كله من الإيمان والأعمال الصالحة .
والغي : الفساد والضلال ، وهو ضد الرشد بهذا المعنى ، كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المال . فالمعنى : إن يدركوا الشيء الصالح لم يعملوا به [ ص: 106 ] لغلبة الهوى على قلوبهم ، وإن يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى ، فالعمل به حمل للنفس على كلفة ، وذلك تأباه الأنفس التي نشأت على متابعة مرغوبها ، وذلك شأن الناس الذين لم يروضوا أنفسهم بالهدى الإلهي ، ولا بالحكمة ونصائح الحكماء والعقلاء ، بخلاف الغي فإنه ما ظهر في العالم إلا من آثار شهوات النفوس ودعواتها التي يزين لها الظاهر العاجل ، وتجهل عواقب السوء الآجلة ، كما جاء في الحديث . حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات
والتعبير في الصلات الأربع بالأفعال المضارعة : لإفادة تجدد تلك الأفعال منهم واستمرارهم عليها .
وقرأ الجمهور : الرشد - بضم فسكون - وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : بفتحتين ، وهما لغتان فيه .
وجملة ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأن توسيمهم بتلك الصلات يثير سؤالا .
والمشار إليه بذلك ما تضمنه الكلام السابق ، نزل منزلة الموجود في الخارج ، وهو ما تضمنه قوله ( سأصرف عن آياتي ) إلى آخر الآية ، واستعمل له اسم إشارة المفرد لتأويل المشار إليه بالمذكور كقوله - تعالى - والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما أي من يفعل المذكور ، وهذا الاستعمال كثير في اسم الإشارة ، وألحق به الضمير كما تقدم في قوله - تعالى - ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله في سورة البقرة .
والباء للسببية أي : كبرهم ، وعدم إيمانهم ، واتباعهم سبيل الغي ، وإعراضهم عن سبيل الرشد سببه تكذيبهم بالآيات ، فأفادت الجملة بيان سبب الكبر وما عطف عليه من الأوصاف التي هي سبب صرفهم عن الآيات ، فكان ذلك سبب السبب ، وهذا أحسن من إرجاع الإشارة إلى الصرف المأخوذ من سأصرف لأن هذا المحمل يجعل التكذيب سببا ثانيا للصرف ، وجعله سببا للسبب أرشق .
واجتلبت ( أن ) الدالة على المصدرية والتوكيد : لتحقيق هذا التسبب وتأكيده ؛ لأنه محل عرابة .
[ ص: 107 ] وجعل المسند فعلا ماضيا ، لإفادة أن وصف التكذيب قديم راسخ فيهم ، فكان رسوخ ذلك فيهم سببا في أن خلق الطبع والختم على قلوبهم فلا يشعرون بنقائصهم ، ولا يصلحون أنفسهم ، فلا يزالون متكبرين معرضين غاوين .
ومعنى كذبوا بآياتنا أنهم ابتدءوا بالتكذيب ، ولم ينظروا ، ولم يهتموا بالتأمل في الآيات فداموا على الكبر وما معه ، فصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بالآيات ، وليس المراد الإخبار بأنهم حصل منهم التكذيب ؛ لأن ذلك قد علم من قوله وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها .
والغفلة انصراف العقل والذهن عن تذكر شيء بقصد أو بغير قصد ، وأكثر استعماله في القرآن فيما كان عن قصد بإعراض وتشاغل ، والمذموم منها ما كان عن قصد وهو مناط التكليف والمؤاخذة ، فأما الغفلة عن غير قصد فلا مؤاخذة عليها ، وهي المقصود من قول علماء أصول الفقه : يمتنع . تكليف الغافل
وللتنبيه على أن غفلتهم عن قصد صيغ الإخبار عنهم بصيغة وكانوا عنها غافلين للدلالة على استمرار غفلتهم ، وكونها دأبا لهم ، وإنما تكون كذلك إذا كانوا قد التزموها ، فأما لو كانت عن غير قصد ، فإنها قد تعتريهم وقد تفارقهم .