.
قرأ هذا الحرف ابن ذكوان عن ابن عامر " تخيل " بالتاء ، أي : تخيل هي أي : الحبال ، والعصي أنها تسعى . والمصدر في " أنها تسعى " بدل من ضمير الحبال ، والعصي الذي هو نائب فاعل لـ " تخيل " بدل اشتمال . وقرأ الباقون بالياء التحتية . والمصدر في سحرهم أنها تسعى نائب فاعل لـ " تخيل " .
وفي هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه ، والتقدير : قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم ، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . وبه تعلم أن الفاء في قوله فإذا حبالهم عاطفة على محذوف كما أشار لنحو ذلك ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح
و " إذا " هي الفجائية ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها فأغنى ذلك عن إعادته هنا . والحبال : جمع حبل ، وهو معروف . و " العصي " جمع عصا ، وألف العصا منقلبة عن واو ، ولذا ترد إلى أصلها في التثنية : ومنه قول غيلان ذي الرمة :
[ ص: 35 ]
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه على عصويها سابري مشبرق
وأصل العصي عصوو على وزن فعول جمع عصا . فأعل بإبدال الواو التي في موضع اللام ياء فصار عصويا ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء ، فالياءان أصلهما واوان . وإلى جواز هذا النوع من الإعلال في واوي اللام مما جاء على فعول أشار في الخلاصة بقوله :
كذاك ذا وجهين جا الفعول من ذي الواو لام جمع أو فرد يعن
وضمة الصاد في وعصيهم أبدلت كسرة لمجانسة الياء ، وضمة عين " عصيهم " أبدلت كسرة لاتباع كسرة الصاد . والتخيل في قوله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى هو إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال . وهو الطيف الطارق في النوم . قال الشاعر :
ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى يدل على أن فرعون تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر . وهذا الذي دلت عليه آية " طه " هذه دلت عليه آية " الأعراف " وهي قوله تعالى : السحر الذي جاء به سحرة فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] ، لأن قوله : سحروا أعين الناس يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمرا لا حقيقة له . وبهاتين الآيتين احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له .
والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين : أن لا مطلق تخييل لا حقيقة له ، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تعالى : السحر منه ما هو أمر له حقيقة فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 102 ] فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سببا للتفريق بين الرجل وامرأته وقد عبر الله عنه بما الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي . ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد [ 113 4 ] يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن . فلولا أن السحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه . وسيأتي إن شاء الله أن السحر أنواع : منها ما هو أمر له حقيقة ، ومنها ما هو تخييل لا حقيقة له . وبذلك يتضح عدم التعارض بين الآيات الدالة على أن له حقيقة ، والآيات الدالة على أنه خيال .
[ ص: 36 ] فإن قيل : قوله في " طه " : يخيل إليه من سحرهم [ 20 66 ] ، وقوله في " الأعراف " : سحروا أعين الناس [ 7 116 ] الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له ، يعارضهما قوله في " الأعراف " : وجاءوا بسحر عظيم [ 7 116 ] لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال . فالذي يظهر في الجواب ، والله أعلم أنهم أخذوا كثيرا من الحبال ، والعصي ، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال ، والعصي تسعى وهي كثيرة . فظن الناظرون أن الأرض ملئت حيات تسعى ، لكثرة ما ألقوا من الحبال ، والعصي فخافوا من كثرتها ، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظم . وهذا ظاهر لا إشكال فيه . وقد قال غير واحد : إنهم جعلوا الزئبق على الحبال ، والعصي ، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال ، والعصي ، فخيل للناظرين أنها تسعى . وعن : أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، مع كل ساحر منهم حبال وعصي . وقيل : كانوا أربعمائة . وقيل كانوا اثني عشر ألفا . وقيل أربعة عشر ألفا . وقال ابن عباس : كانوا ثمانين ألفا . وقيل : كانوا مجمعين على رئيس يقال له ابن المنكدر شمعون . وقيل : كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا ، مع كل نقيب عشرون عريفا ، مع كل عريف ألف ساحر . وقيل : كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم ، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد وثلاثمائة ألف ساحر من الريف فصاروا تسعمائة ألف ، وكان رئيسهم أعمى ا ه . وهذه الأقوال من الإسرائيليات ، ونحن نتجنبها دائما ، ونقلل من ذكرها ، وربما ذكرنا قليلا منها منبهين عليه .