.
قد قدمنا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها الآية [ 13 \ 57 ] الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة . فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك . واعلم [ ص: 126 ] أن الضنك في اللغة : الضيق . ومنه قول عنترة :
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل
وقوله أيضا :
إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة ، لا يكذب بعضها بعضا . وقد قدمنا مرارا : أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة . ومن الأقوال في ذلك : أن معنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم ، والقناعة ، والتوكل على الله ، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة ، فيعيش عيشا هنيئا . ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] وقوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى الآية [ 11 \ 3 ] كما تقدم إيضاح ذلك كله .
وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة . ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة ، والمسكنة بسبب كفره ، كما قال تعالى : وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الآيات [ 2 \ 61 ] . وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله . وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى أن عيشهم يصير واسعا رغدا لا ضنكا ، كقوله تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم الآية [ 5 \ 66 ] وقوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الآية [ 7 \ 96 ] وكقوله تعالى عن نوح : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى عن هود : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم الآية [ 11 \ 52 ] [ ص: 127 ] وقوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه الآية [ 72 \ 16 - 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وعن الحسن أن المعيشة الضنك : هي طعام الضريع ، والزقوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى ، كقوله : ليس لهم طعام إلا من ضريع الآية [ 88 \ 6 ] وقوله : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الآية [ 44 \ 43 - 44 ] ونحو ذلك من الآيات . وعن عكرمة ، والضحاك : المعيشة الضنك : الكسب الحرام ، والعمل السيئ . وعن ومالك بن دينار أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود : المعيشة الضنك : عذاب القبر وضغطته . وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله وأبي هريرة يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [ 14 \ 27 ] ، .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث : أن المعيشة الضنك في الآية : عذاب القبر . وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله أبي هريرة ابن كثير في تفسير هذه الآية . ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا . وطعام الضريع ، والزقوم . فتكون معيشته ضنكا في الدنيا ، والبرزخ ، والآخرة ، والعياذ بالله تعالى .