فإن قيل : هؤلاء الذين يفضلون ، الإفراد كمالك ، ، وأصحابهما ، والشافعي وكأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ومن ذكرنا سابقا ممن يقول بأفضلية الإفراد على غيره من أنواع النسك بأي جواب يجيبون عن الأحاديث الصحيحة الواردة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه كان متمتعا والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه أمر كل من لم يسق هديا من أصحابه ، بأن يتحلل من إحرامه بعمرة ، فالذين أحرموا بالإفراد أمرهم بفسخ الحج في عمرة ، والتحلل التام من تلك العمرة ، وتأسف هو صلى الله عليه وسلم على أنه ساق الهدي الذي صار سببا لمنعه من التحلل بعمرة ، وقال " " مع أنه صلى الله عليه وسلم لا يتأسف على فوات العمرة ، إلا وهي أفضل من غيرها ، والقران الذي اختاره الله له لا يكون غيره أفضل منه ، لأن الله لا يختار لنبيه في نسكه إلا ما هو الأفضل . لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة
فالجواب : أن المالكية والشافعية يقولون : إن التمتع الذي أمر به صلى الله عليه وسلم من كان مفردا وذلك بفسخ الحج في العمرة ، لا شك أنه في ذلك الوقت وفي تلك السنة أفضل من غيره ، ولكن لا يلزم من أفضليته في ذلك الوقت أن يكون أفضل فيما سواه .
وإيضاح ذلك : أنه دلت أدلة سيأتي قريبا تفصيلها إن شاء الله ، على أن تحتم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به خاص بذلك الركب وبتلك السنة ، وأنه ما أمر بذلك لأفضلية ذلك في حد ذاته ، ولكن لحكمة أخرى خارجة عن ذاته ؛ وهي أن يبين للناس أن فسخ الحج المذكور في العمرة جائزة ، وما فعله صلى الله عليه وسلم أو أمر به للبيان والتشريع ، [ ص: 356 ] فهو قربة في حقه ، وإن كان مكروها أو مفضولا ، فقد يكون الفعل بالنظر إلى ذاته مفضولا أو مكروها ، ويفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يأمر به لبيان الجواز ، فيصير قربة في حقه ، وأفضل مما هو دونه بالنظر إلى ذاته كما هو مقرر في الأصول ، وإليه أشار صاحب مراقي السعود بقوله : العمرة في أشهر الحج
وربما يفعل للمكروه مبينا أنه للتنزيه فصار في جانبه من القرب
كالنهي أن يشرب من فم القرب
وقال في نشر البنود في شرحه للبيتين المذكورين : يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل المكروه المنهي عنه ، مبينا بذلك الفعل أن النهي للتنزيه لا للتحريم ، فصار ذلك الفعل في حقه قربة يثاب عليها لما فيه من البيان ، كنهيه عن الشرب من أفواه القرب ، وقد شرب منها . انتهى منه .
وليس قصدنا أن التمتع والقران مكروهان ، بل لا كراهة في واحد منهما يقينا ، ولكن المقصود بيان أن الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز ، يكون بهذا الاعتبار أفضل من غيره ، وإن كان غيره أفضل منه ، بالنظر إلى ذاته ، وهذه هي الأدلة الدالة على أنه فعل ذلك لبيان الجواز ، ولذلك يختص بذلك الركب وتلك السنة .
الأول منها : حديث المتفق عليه ، الذي قدمناه قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون : إذا برئ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، ابن عباس " قالوا : فقوله في هذا الحديث المتفق عليه : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله : فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم أن يجعلوا حجهم عمرة ، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه ، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل ، وقد تقرر في مسلك النص ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف التعليل ، كما قدمناه مرارا ، قالوا : فقول من زعم أن قوله في الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، لا ارتباط بينه وبين قوله : فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، ظاهر السقوط كما ترى ؛ لأنه لو لم يقصد به ذلك ، لكان ذكره قليل الفائدة . فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ قال " الحل كله
[ ص: 357 ] ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ، عن هناد بن السري ، ثنا ابن أبي زائدة ، ابن جرير ومحمد بن إسحاق ، عن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن طاوس قال : ابن عباس عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، فإن هذا الحي من قريش ، ومن دان دينهم ، كانوا يقولون : إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر ، فقد حلت العمرة لمن اعتمر . فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم . اهـ . والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى أن حديث المتفق عليه المذكور ، دال على ذلك ، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازما ؛ لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور ، كما دل عليه حديثه ، وهو يرى بقاء حكمه ، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ، ولكن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من ابن عباس المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك .
الدليل الثاني من أدلتهم على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز ، وأنه خاص بذلك الركب وتلك السنة ، هو ما جاء من الأحاديث دالا على ذلك ، قال أبو داود في سننه : حدثنا النفيلي ، ثنا - أخبرني عبد العزيز - يعني ابن محمد ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الحارث بن بلال بن الحارث ، عن أبيه قال : " . اهـ . قلت : يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا ؟ قال : " بل لكم خاصة
وقال في سننه : أخبرنا النسائي إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا عبد العزيز ، وهو الدراوردي ، عن ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الحارث بن بلال ، عن أبيه قال : " . اهـ . قلت : يا رسول الله ، أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : " بل لنا خاصة
وقال في سننه : حدثنا ابن ماجه أبو مصعب ، ثنا ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الحارث بن بلال بن الحارث ، عن أبيه قال : " . قلت : يا رسول الله ، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل لنا خاصة
وقال في صحيحه : وحدثنا مسلم بن الحجاج ، سعيد بن منصور ، وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالوا : حدثنا أبو معاوية ، عن عن الأعمش ، عن أبيه عن إبراهيم التيمي أبي ذر رضي الله عنه ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . كانت المتعة في الحج لأصحاب
[ ص: 358 ] وحدثنا ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن مهدي سفيان ، عن عياش العامري ، عن ، عن أبيه ، عن إبراهيم التيمي أبي ذر رضي الله عنه قال : . وحدثنا كانت لنا رخصة . يعني المتعة في الحج ، حدثنا قتيبة بن سعيد جرير ، عن فضيل ، عن زبيد ، عن ، عن أبيه قال : قال إبراهيم التيمي أبو ذر رضي الله عنه : لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ، يعني متعة النساء ومتعة الحج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء ، قال : أتيت ، إبراهيم النخعي فقلت : إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام ، فقال وإبراهيم التيمي : لكن أبوك لم يكن ليهم بذلك ، قال إبراهيم النخعي قتيبة : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن ، عن أبيه أنه مر إبراهيم التيمي بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر ذلك له فقال : إنما كانت لنا خاصة دونكم . وقال البيهقي وغيره من الأئمة : مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة . واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا هناد ، يعني ابن السري ، عن ، أخبرنا ابن أبي زائدة محمد بن إسحاق ، عن ، عن عبد الرحمن بن الأسود سلم بن الأسود أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة : لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : فهذه الرواية التي في سنن أن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم ، وضعفت رواية أبي داود هذه ، بأن المذكور فيها مدلس . وقد قال : عن ابن إسحاق . وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث ، حتى يصح السماع من طريق أخرى . ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين : عبد الرحمن بن الأسود
الأولى : أن مشهور مذهب مالك ، وأحمد ، وأبي حنيفة رحمهم الله صحة الاحتجاج بالمرسل ، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى ، كما قدمناه مرارا .
والثانية : أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم ، والبيان يقع بكل ما يزيل الإبهام ولو قرينة أو غيرها ، كما هو مقرر في الأصول . وقد قدمناه مرارا أيضا .
وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله رضي الله عنه ، ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين : عثمان بن عفان
[ ص: 359 ] الأولى منهما : تضعيف الحديثين المذكورين ، قالوا : حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عند أبي داود والنسائي فيه ابنه وابن ماجه الحارث بن بلال ، وهو مجهول ، قالوا : وقال رحمه الله في حديث الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل بلال المذكور : هذا الحديث لا يثبت عندي ، ولا أقول به ، قال : وقد روى فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابيا ، أين يقع الحارث بن بلال منهم ؟ قالوا : وحديث أبي ذر عند مسلم موقوف عليه ، وليس بمرفوع ، وإذا كان الأول في سنده مجهول ، والثاني موقوفا ، تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج .
الجهة الثانية من جهتي رد الحديثين المذكورين : هي أنهما معارضان بأقوى منهما ، وهو حديث جابر المتفق عليه : سراقة بن مالك بن جعشم ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بل للأبد " وفي رواية في الصحيح : فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : " دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد " ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين ، قالوا : حديث بلال المذكور سكت عليه أن أبو داود ، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج ، قالوا : ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح . وقد قال ابن حجر في التقريب فيه : هو مقبول ، قالوا : واعتضد حديثه بما رواه مسلم عن أبي ذر ، كما رأيته آنفا قالوا : إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه ، فهو حديث صحيح له حكم الرفع ، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره ، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال ، كما يدل عليه كلام الآتي ، وحكمنا بأنه موقوف على عمران بن حصين أبي ذر ، فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه ، وبعده من الكذب ، يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة إلا وهو عارف صحة ذلك ، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه ، قالوا : ويعتضد حديث الحارث بن بلال المذكور أيضا بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان على الإفراد ، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره ، لما هو معلوم من تقاهم وورعهم ، وحرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور . وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم ، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار ، كما أوضحه رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند عروة بن الزبير مسلم . قالوا : ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف [ ص: 360 ] لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبي صلى الله عليه وسلم ، وإجابته له بقوله : بل للأبد - لا يستقيم ; لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما ، والمقرر في علم الأصول وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا ، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى ; لأنهما صادقان ، وليسا بمتعارضين ، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ؛ لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى ، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين : أن حديث بلال بن الحارث المزني ، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة : التحتم والوجوب ، فتحتم فسخ الحج في العمرة ووجوبه ، خاص بذلك الركب ، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك ، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد . وقوله في حديث جابر : بل للأبد ، محمول على الجواز وبقاء المشروعية إلى الأبد . فاتفق الحديثان .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا صوابه في حديث : " بل للأبد " وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين ، هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ؛ وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم ، وحمل التأبيد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة ، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية ، كما لا يخفى .
واعلم : أن الشافعية والمالكية ، ومن وافقهم يقولون : إن قوله صلى الله عليه وسلم " بل للأبد " لا يراد به ، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج ، وقال بعضهم : المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران . فسخ الحج في العمرة
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية والشافعية قول النبي لسراقة : " بل للأبد " ليس هو معناه ، بل معناه : بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة ، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهورا بينا لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، بل صريح في ذلك .
وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول : ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه : فقال صلى الله عليه وسلم : " سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه [ ص: 361 ] واحدة في الأخرى وقال : " دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد " . انتهى المراد منه . وهو صريح في أن سؤال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة . " فقام سراقة عن الفسخ المذكور وجواب النبي له يدل على تأبيد مشروعيته كما ترى ؛ لأن الجواب مطابق للسؤال ، فقول المالكية والشافعية ومن وافقهم بأن الفسخ ممنوع لغير أهل حجة الوداع ، لا يستقيم مع هذا الحديث الصحيح المصرح بخلافه كما ترى .
ودعواهم أن المراد بقوله : " بل لأبد أبد " جواز العمرة في أشهر الحج ، أو اندراج أعمالها فيه في حال القران - بعيد من ظاهر اللفظ المذكور كما ترى ، وأبعد من ذلك دعوى من ادعى أن المعنى : أن العمرة اندرجت في الحج ؛ أي اندرج وجوبها في وجوبه ، فلا تجب العمرة ؛ وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة ، وبعد هذا القول وظهور سقوطه كما ترى .
والصواب إن شاء الله : هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة ، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه .
وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول : أين يقع الإمام أحمد الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيا رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم ، ما نصه : قلت : لا معارضة بينهم وبينه حتى يقدموا عليه ؛ لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ، ولم يذكروا حكم غيرهم ، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة ، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم . اهـ .
وإذا عرفت مما ذكرنا أدلة الذين ذهبوا إلى تفضيل الإفراد على غيره من أنواع النسك ، وعلمت أن جوابهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أنه لإزالة ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، وأن الفعل المفعول لبيان الجواز ، قد يكون أفضل بذلك الاعتبار من غيره ، وإن كان غيره أفضل منه بالنظر إلى ذاته .
فاعلم أنهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، والأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا ، وكلها ثابتة في الصحيحين وغيرهما في حجة الوداع مع الأحاديث المصرحة بأنه كان مفردا التي هي معتمدهم في تفضيل الإفراد بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا مفردا ، ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج ، فصار قارنا ، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم أنه هو الذي أحرم به أول إحرامه ، وأحاديث القران [ ص: 362 ] عندهم حق ، إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا ، وصيرورته قارنا في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران ، فلا منافاة . أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعا فلا إشكال فيها ; لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران من حيث إن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج ، وكذلك أمره لأصحابه بالتمتع وتمنيه له ، وتأسفه على فواته بسبب سوق الهدي في قوله : " " كفعله له . قالوا : وبهذا تتفق الأحاديث ، ويكون التمتع المذكور بفسخ الحج في العمرة لبيان الجواز ، وهو بهذا الاعتبار أفضل من غيره ، فلا ينافي أن الإفراد أفضل منه بالنظر إلى ذاته ، كما سار عليه لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، قالوا : ولما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أسفوا ، لأنهم أحلوا وهو باق على إحرامه ، فأدخل العمرة على الحج لتطيب نفوسهم ، بأنه صار معتمرا مع حجه لما أمرهم بالعمرة ، والمانع له من أن يحل كما أحلوا هو سوق الهدي ، قالوا فعمرتهم لبيان الجواز ، وعمرته التي بها صار قارنا لمواساتهم لما شق عليهم أنه خالفهم ، فصار تمتعهم وقرانه بهذا الاعتبار أولى من غيرهما ، ولا يلزم من ذلك أفضليتهما في كل الأحوال ، بعد زوال الموجب الحامل على ذلك .
قالوا : وهذا هو الذي لاحظه الخلفاء الراشدون : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم ، فواظبوا على الإفراد نحو أربع وعشرين سنة ، كلهم يأخذ بسنة الخليفة الذي قبله في ذلك .
قالوا : وما قاله جماعة من أجلاء العلماء ، من أن بيان جواز العمرة في أشهر الحج عام حجة الوداع - لا داعي له ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بيانا متكررا في سنين متعددة : وذلك لأنه اعتمر عمرة الحديبية عام ست ، وعمرة القضاء عام سبع ، وعمرة الجعرانة عام ثمان ، وكل هذه العمر الثلاث في ذي القعدة من أشهر الحج .
قالوا : وهذا البيان المتكرر سنة بعد سنة كاف غاية الكفاية ، فلا حاجة إلى بيان ذلك بأمر الصحابة بفسخ الحج في العمرة . وكذلك قوله : " ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل " المتقدم في حديث عائشة .
وإذا كان بيان ذلك لا حاجة إليه ، تعين أن الأمر بالفسخ المذكور لأفضلية التمتع على غيره لا بشيء آخر - لا شك في أنه ليس بصحيح ، وأن بيان ذلك محتاج إليه غاية الاحتياج في حجة الوداع ، ولشدة الاحتياج إلى ذلك البيان أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة ، والدليل على ذلك هو ما ثبت في حديث المتفق عليه ، وقد ذكرناه في أول هذا المبحث . ابن عباس
[ ص: 363 ] قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، الحديث . وفيه : " : وفي فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله ؛ أي الحل ؟ قال " الحل كله قال " حله كله " فقول البخاري في هذا الحديث الصحيح : فتعاظم ذلك عندهم ، دليل على أنه في ذلك الوقت لم يزل عظيما عندهم . ولو كانت العمر الثلاث المذكورة أزالت من نفوسهم ذلك إزالة كلية ، لما تعاظم الأمر عندهم ، فتعاظم ذلك الأمر عندهم المصرح به في حديث متفق عليه ، بعد صبح رابعة من ذي الحجة عام عشر - دليل على أن العمرة عام ست وعام سبع وعام ثمان ما أزالت ما كان في نفوسهم لشدة استحكامه فيها . وكذلك إذنه لمن شاء أن يهل بعمرة ، السابق في حديث ابن عباس عائشة . والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مودع حريص على إتمام البيان ، وحجة الوداع اجتمع فيها جمع من المسلمين لم يجتمع مثله في موطن من المواطن في حياته صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور : فتعاظم عندهم ؛ أي : لما كانوا يعتقدونه أولا ، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج : فكبر ذلك عندهم . انتهى منه .
قالوا : ولشدة عظمه عندهم ، لم يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أولا ، حتى غضب عليهم بسبب ذلك . وبذلك كله يتضح لك أن ما كان مستحكما في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، لم يزل بالكلية إلى صبح رابعة ذي الحجة سنة عشر .
قالوا : وبه تعلم أن بيان جواز ذلك في حجة الوداع بعمل كل الصحابة الذين لم يسوقوا هديا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واعتماره هو مع حجته - أعني قرانه بينهما - أمر محتاج إليه جدا للبيان المذكور .
ومما يدل من الأحاديث الصحيحة على أن ما كان في نفوسهم من ذلك لم يزل بالكلية : ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ : " وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة : يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي ، فقالوا : ننطلق إلى منى ، وذكر أحدنا يقطر ؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " الحديث . هذا لفظ لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت رحمه الله ، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يحلوا : ننطلق إلى [ ص: 364 ] البخاري منى ، وذكر أحدنا يقطر ؟ يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى . وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز . وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث المتقدم ؛ لأن قوله " فتعاظم ذلك عندهم " يحتمل أن يكون موجب التعاظم أنهم كانوا أولا محرمين بحج ، ويدل لهذا الاحتمال حديث ابن عباس جابر الثابت في الصحيح أنه " ، الحديث . وفيه : فقالوا : كيف نجعلها متعة ، وقد سمينا الحج ؟ إلى آخر الحديث ، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة ; لأنهم قد سموا الحج ، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، لم يزل باقيا إلى ذلك الوقت ; لأن حديث حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه ، وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم : " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت جابر المذكور - أعني قوله : فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر - لا يحتمل هذا الاحتمال ، بل معناه : أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم ، لأنه في وقت الحج كما بينا ، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير ، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور ، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفا .
ويبين أيضا أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم ؛ حيث قال رحمه الله في صحيحه : حدثنا ، حدثني أبي ، حدثنا ابن نمير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان عطاء ، عن رضي الله عنهما ، قال : جابر بن عبد الله مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة ، فكبر ذلك علينا ، وضاقت به صدورنا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فما ندري أشيء بلغه من السماء ، أم شيء من قبل الناس ؟ فقال " أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم " ، الحديث . أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، فلما قدمنا
فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح : فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا ، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج لم يزل ، ولولا ذلك لما كبر عليهم ، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج ، كما أوضحه حديثه المذكور أيضا . وعلى هذا الذي ذكروه ، فالذي استدبره من أمره ، ولو استقبله لم يسق الهدي : هو ملاحظة البيان المذكور ، وإن كان قد بين ذلك سابقا لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع ، وهو مودع ، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور ; لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان ; لأنها ليست مع الحج ، فهي مستقلة عنه ، فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعا له . وقد [ ص: 365 ] أوضحنا في هذا الكلام حجة من قال من أهل العلم بتفضيل الإفراد على غيره ، من أنواع النسك ، وجوابهم عما جاء من الأحاديث دالا على أفضلية القران أو التمتع ، ووجه جمعهم بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها الاختلاف في حجة النبي صلى الله عليه وسلم .