قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون     . 
في هذه الآية الكريمة إشكال معروف ، ووجهه أن قول الكفار الذي ذكره الله عنهم هنا ، أعني قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم    [ 43 \ 20 ] - هو بالنظر إلى ظاهره كلام صحيح ; لأن الله لو شاء أن لا يعبدوهم ما عبدوهم ، كما قال - تعالى - : ولو شاء الله ما أشركوا    [ 6 \ 107 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين    [ 6 \ 35 ] . وقال - تعالى - : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها  الآية   [ ص: 94 ]   [ 32 \ 13 ] . وقال - تعالى - : فلو شاء لهداكم أجمعين    [ 6 \ 149 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين    [ 10 \ 99 ] . 
وهذا الإشكال المذكور في آية " الزخرف " هو بعينه واقع في آية " الأنعام " ، وآية " النحل " . 
أما آية " الأنعام " فهي قوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء  الآية [ 6 \ 148 ] . 
وأما آية " النحل " فهي قوله : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا  الآية [ 16 \ 35 ] . 
فإذا عرفت أن ظاهر آية " الزخرف " وآية " الأنعام " وآية " النحل " - أن ما قاله الكفار حق ، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه من شيء ولا أشركوا به شيئا  ، كما ذكرنا في الآيات الموضحة قريبا - فاعلم أن وجه الإشكال ، أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق ، قال في آية " الزخرف " : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون    [ 43 \ 20 ] . أي يكذبون ، وقال في آية " الأنعام " : كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون    [ 6 \ 148 ] . وقال في آية " النحل " : كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين    [ 16 \ 35 ] . 
ومعلوم أن الذي فعله الذين من قبلهم هو الكفر بالله ، والكذب على الله في جعل الشركاء له ، وأنه حرم ما لم يحرمه . 
والجواب عن هذا أن مراد الكفار بقولهم : لو شاء الرحمن ما عبدناهم  ، وقولهم : لو شاء الله ما أشركنا    [ 6 \ 148 ] - مرادهم به أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك ، وهدايتهم إلى الإيمان ، ولم يمنعهم من الشرك - دل ذلك على أنه راض منهم بالشرك في زعمهم . 
 [ ص: 95 ] قالوا : لأنه لو لم يكن راضيا به لصرفنا عنه ، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به ، والله - جل وعلا - يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة ، وفي قوله : ولا يرضى لعباده الكفر    [ 39 \ 7 ] . 
فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية تستلزم الرضى ، وهو زعم باطل  ، وهو الذي كذبهم الله فيه في الآيات المذكورة . 
وقد أشار - تعالى - إلى هذه الآيات المذكورة ، حيث قال في آية " الزخرف " : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون    [ 43 \ 21 ] . أي آتيناهم كتابا يدل على أنا راضون منهم بذلك الكفر ، ثم أضرب عن هذا إضراب إبطال مبينا أن مستندهم في تلك الدعوى الكاذبة هو تقليد آبائهم التقليد الأعمى ، وذلك في قوله : بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة    [ 43 \ 22 ] . أي شريعة وملة ، وهي الكفر وعبادة الأوثان وإنا على آثارهم مهتدون    [ 43 \ 22 ] . 
فقوله عنهم : ( مهتدون ) وهو مصب التكذيب ; لأن الله إنما يرضى بالاهتداء لا بالضلال    . 
فالاهتداء المزعوم أساسه تقليد الآباء الأعمى ، وسيأتي إيضاح رده عليهم قريبا - إن شاء الله - . 
وقال - تعالى - في آية " النحل " بعد ذكره دعواهم المذكورة : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة    [ 16 \ 36 ] . 
فأوضح في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن راضيا بكفرهم ، وأنه بعث في كل أمة رسولا ، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده  ، ويجتنبوا الطاغوت ، أي يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه . 
وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده ، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة ، أي ثبت عليه الكفر والشقاء . 
وقال - تعالى - في آية " الأنعام " : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين    [ 6 \ 149 ] . 
 [ ص: 96 ] فملكه - تعالى - وحده للتوفيق والهداية ، هو الحجة البالغة على خلقه ، يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق ، فهو فضل منا ورحمة . 
ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة ; لأنه لم يكن له ذلك دينا علينا ، ولا واجبا مستحقا يستحقه علينا ، بل إن أعطينا ذلك ففضل ، وإن لم نعطه فعدل . 
وحاصل هذا أن الله - تبارك وتعالى - قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق  ، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة ، فريق في الجنة وفريق في السعير . 
وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا ،  فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك . 
ثم إنه - تعالى - وفق من شاء توفيقه ، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي ، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر ، وصرف قدرتهم وإراداتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة ، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء . 
فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا ، طائعين مختارين ، غير مجبورين ولا مقهورين وما تشاءون إلا أن يشاء الله    [ 76 ] . قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين    [ 6 \ 149 ] . 
وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء    . 
ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، كحركة المرتعش - فرقا ضروريا ، لا ينكره عاقل . 
وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون ، وفقأت عينه مثلا ، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر ، فقلت له : أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك ، بل هو فعل الله ، وأنا لا دخل فيه ، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك . 
بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا : إن هذا بإرادتك ومشيئتك . 
 [ ص: 97 ] ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية   ، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته    - أنه لا يمكن أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر . 
وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى . 
وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري : إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا ، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه ، فهل يمكنك أن تستقل بذلك ؟ وتصير علم الله جهلا ، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له ؟ 
والجواب بلا شك : هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله    [ 76 ] . وقال الله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين    [ 6 \ 149 ] . 
ولا إشكال ألبتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك  ، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه ، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا مجبور ، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته ، كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله    . 
والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين  أبي إسحاق الإسفراييني  وعبد الجبار المعتزلي  توضح هذا . 
وهي أن عبد الجبار  قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله    ; لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته . 
فقال أبو إسحاق    : كلمة حق أريد بها باطل . 
ثم قال : سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء . 
فقال عبد الجبار    : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه . 
فقال أبو إسحاق    : أتراك تفعله جبرا عليه ، آنت الرب وهو العبد ؟ 
 [ ص: 98 ] فقال عبد الجبار    : أرأيت إن دعاني إلى الهدى ، وقضى علي بالرديء ، دعاني وسد الباب دوني ؟ أتراه أحسن أم أساء ؟ 
فقال أبو إسحاق    : أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقا واجبا لك عليه - فقد ظلمك ، وقد أساء ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار  ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب . 
ومضمون جواب أبي إسحاق  هذا الذي أفحم به عبد الجبار  ، هو معنى قوله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين    [ 6 \ 149 ] . 
وذكر بعضهم أن  عمرو بن عبيد  جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت ، وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه . 
فقال عمرو  ما معناه : اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها; لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا . 
فقال الأعرابي : ناشدتك الله يا هذا ، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد ، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه . فألقمه حجرا . 
وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام عن آية " الأنعام " المذكورة في هذا البحث ، وفي سورة " الشمس " في الكلام عن قوله - تعالى - : فألهمها فجورها وتقواها    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					