اختلف العلماء في معنى إن في هذه الآية .
فقالت جماعة من أهل العلم : إنها شرطية ، واختاره غير واحد ، وممن اختاره ، والذين قالوا : إنها شرطية ، اختلفوا في المراد بقوله : فأنا أول العابدين . ابن جرير الطبري
فقال بعضهم : فأنا أول العابدين لذلك الولد .
وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولدا .
وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد .
وقالت جماعة آخرون : إن لفظة إن في الآية نافية .
والمعنى : ما كان لله ولد ، وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله : فأنا أول العابدين ثلاثة أوجه : الأول - وهو أقربها - : أن المعنى : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين لله المنزهين له [ ص: 149 ] عن الولد ، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .
والثاني : أن معنى قوله : فأنا أول العابدين أي الآنفين المستنكفين من ذلك ، يعني القول الباطل المفترى على ربنا الذي هو ادعاء الولد له .
والعرب تقول : عبد - بكسر الباء - يعبد - بفتحها - فهو عبد - بفتح فكسر - على القياس ، وعابد أيضا سماعا إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه ، ومنه قول : الفرزدق
أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن أهجو كليبا بدارم
فقوله : وأعبد ، يعني آنف وأستنكف .
ومنه أيضا قول الآخر : متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما
وفي قصة - رضي الله عنه - المشهورة ، أنه جيء بامرأة من عثمان بن عفان جهينة تزوجت ، فولدت لستة أشهر ، فبعث بها عثمان لترجم ، اعتقادا منه أنها كانت حاملا قبل العقد لولادتها قبل تسعة أشهر ، فقال له علي - رضي الله عنهما - : إن الله يقول : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ويقول - جل وعلا - : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] فلم يبق عن الفصال من المدة إلا ستة أشهر .
فما عبد عثمان - رضي الله عنه - أن بعث إليها لترد ولا ترجم .
ومحل الشاهد من القصة ، فوالله : ( ما عبد عثمان ) أي ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق .
الوجه الثالث : أن المعنى فأنا أول العابدين أي الجاحدين النافين أن يكون لله ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في معنى هذه الآية الكريمة أنه يتعين المصير إلى القول بأن ( إن ) نافية ، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء .
[ ص: 150 ] وإنما اخترنا أن إن هي النافية لا الشرطية ، وقلنا : إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا - لأربعة أمور : الأول : أن هذا القول جار على الأسلوب العربي جريانا واضحا ، لا إشكال فيه ، فكون ( إن كان ) بمعنى ما كان - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، كقوله - تعالى - : إن كانت إلا صيحة واحدة [ 36 \ 29 ] أي ما كانت إلا صيحة واحدة .
فقولك مثلا معنى الآية الكريمة : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الخاضعين للعظيم الأعظم ، المنزه عن الولد ، أو الآنفين المستنكفين من أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله من نسبة الولد إليه ، أو الجاحدين النافين أن يكون لربنا ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - لا إشكال فيه ; لأنه جار على اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، دال على تنزيه الله تنزيها تاما عن الولد ، من غير إيهام البتة لخلاف ذلك .
الأمر الثاني : أن بالعبارات التي لا إيهام فيها - هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة في القرآن ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : تنزيه الله عن الولد وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا الآية [ 18 \ 4 ] . وفي سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا [ 19 \ 88 - 89 ] . والآيات الكثيرة التي ذكرناها في ذلك تبين أن ( إن ) نافية .
فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع - النفي الصريح .
وخير ما يفسر به القرآن القرآن ; فكون المعبر به في الآية ( ما كان للرحمن ولد ) [ 43 \ 81 ] بصيغة النفي الصريح - مطابق لقوله - تعالى - في سورة " بني إسرائيل " : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية [ 17 \ 111 ] . وقوله - تعالى - في أول " الفرقان " : ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 25 \ 2 ] . وقوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد الآية [ 23 \ 91 ] . وقوله - تعالى - : لم يلد ولم يولد [ 112 \ 3 ] . وقوله - تعالى - : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون [ 37 \ 151 - 152 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وأما على القول بأن ( إن ) شرطية ، وأن قوله - تعالى - : فأنا أول العابدين - جزاء [ ص: 151 ] لذلك الشرط ، فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله ، ولا توجد فيه آية تدل على هذا المعنى .
الأمر الثالث : هو أن القول بأن ( إن ) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية ، إلا معنى محذور لا يجوز القول به بحال ، وكتاب الله - جل وعلا - يجب تنزيهه عن حمله على معان محذورة لا يجوز القول بها .
وإيضاح هذا أنه على ، وقوله : القول بأن ( إن ) شرطية فأنا أول العابدين جزاء الشرط - لا معنى لصدقه البتة إلا بصحة الربط بين الشرط والجزاء .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن مدار الصدق والكذب في الشرطية المتصلة - منصب على صحة الربط بين مقدمها الذي هو الشرط ، وتاليها الذي هو الجزاء ، والبرهان القاطع على صحة هذا هو كون الشرطية المتصلة تكون في غاية الصدق مع كذب طرفيها معا ، أو أحدهما لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها ، فمثال كذبهما معا مع صدقها قوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فهذه قضية في غاية الصدق كما ترى ، مع أنها لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها كان كل واحد من طرفيها قضية كاذبة بلا شك ، ونعني بأداة الربط لفظة ( لو ) من الطرف الأول ، واللام من الطرف الثاني ، فإنهما لو أزيلا وحذفا صار الطرف الأول : كان فيهما آلهة إلا الله ، وهذه قضية في منتهى الكذب ، وصار الطرف الثاني فسدتا ، أي السماوات والأرض ، وهذه قضية في غاية الكذب كما ترى .
فاتضح بهذا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين الطرفين وعدم صحته .
فإن كان الربط صحيحا فهي صادقة ، ولو كذب طرفاها أو أحدهما عند إزالة الربط .
وإن كان الربط بينهما كاذبا كانت كاذبة كما لو قلت : لو كان هذا إنسانا لكان حجرا ، فكذب الربط بينهما وكذب القضية بسببه كلاهما واضح .
وأمثلة صدق الشرطية مع كذب طرفيها كثيرة جدا ، كالآية التي ذكرنا ، وكقولك : لو كان الإنسان حجرا لكان جمادا ، ولو كان الفرس ياقوتا لكان حجرا ، فكل هذه القضايا ونحوها صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط .
ومثال صدقها مع كذب أحدهما قولك : لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت ; [ ص: 152 ] فإنها شرطية صادقة لصدق الربط بين طرفيها ، مع أنها كاذبة في أحد الطرفين دون الآخر ; لأن عدم النجاة من الموت صدق ، وكون زيد في السماء كذب ، هكذا مثل بهذا المثال البناني ، وفيه عندي أن هذه الشرطية التي مثل بها اتفاقية لا لزومية ، ولا دخل للاتفاقيات في هذا المبحث .
والمثال الصحيح : لو كان الإنسان حجرا لكان جسما .
واعلم أن قوما زعموا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات منصب على خصوص التالي الذي هو الجزاء ، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك .
وزعموا أن هذا المعنى هو المراد عند أهل اللسان العربي .
والتحقيق الأول .
ولم يقل أحد البتة بقول ثالث في مدار الصدق والكذب في الشرطيات .
فإذا حققت هذا فاعلم أن الآية الكريمة - على القول بأنها جملة شرط وجزاء - لا يصح الربط بين طرفيها البتة بحال على واحد من القولين اللذين لا ثالث لهما إلا على وجه محذور لا يصح القول به بحال .
وإيضاح ذلك أنه على القول الأخير : أن مصب الصدق والكذب في الشرطيات إنما هو التالي الذي هو الجزاء ، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك - فمعنى الآية عليه باطل ، بل هو كفر; لأن معناه أن كونه أول العابدين يشترط فيه أن يكون للرحمن ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - .
لأن مفهوم الشرط أنه إن لم يكن له ولد لم يكن أول العابدين ، وفساد هذا المعنى كما ترى .
وأما على القول الأول الذي هو الصحيح أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين طرفي الشرطية .
فإنه على القول بأن الآية الكريمة جملة شرط وجزاء - لا يصح الربط بين طرفيها البتة أيضا ، إلا على وجه محذور لا يجوز المصير إليه بحال; لأن كون المعبود ذا ولد ، واستحقاقه هو أو ولده العبادة ، لا يصح الربط بينهما البتة إلا على معنى ، هو كفر بالله ; لأن المستحق للعبادة لا يعقل بحال أن يكون ولدا أو والدا .
[ ص: 153 ] وبه تعلم أن الشرط المزعوم في قوله : إن كان للرحمن ولد - إنما يعلق به محال لاستحالة كون الرحمن ذا ولد .
ومعلوم أن المحال لا يعلق عليه إلا المحال .
فتعليق عبادة الله التي هي أصل الدين على كونه ذا ولد - ظهور فساده كما ترى ، وإنما تصدق الشرطية في مثل هذا لو كان المعلق عليه مستحيلا ، فادعاء أن ( إن ) في الآية شرطية مثل ما لو قيل : لو كان معه آلهة لكنت أول العابدين له ، وهذا لا يصدق بحال; لأن واحدا من آلهة متعددة لا يمكن أن يعبد ، فالربط بين طرفيها مثل هذه القضية لا يصح بحال .
ويتضح لك ذلك بمعنى قوله : وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض الآية [ 23 \ 91 ] .
فإن قوله : ( إذا ) أي لو كان معه غيره من الآلهة لذهب كل واحد منهم بما خلق واستقل به ، وغالب بعضهم بعضا ولم ينتظم للسماوات والأرض نظام ، ولفسد كل شيء ، كما قال - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 \ 42 ] على الصحيح الذي هو الحق من التفسيرين .
ومعنى ابتغائهم إليه - تعالى - سبيلا - هو طلبهم طريقا إلى مغالبته كما يفعله بعض الملوك مع بعضهم .
والحاصل أن فلا يمكن أن يصح الربط بينه وبين الجزاء ، إلا إذا كان الجزاء مستحيلا أيضا ; لأن الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل . الشرط إن علق به مستحيل
أما كون الشرط مستحيلا والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر - فهذا مما لا يصح بحال .
ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه .
ولا شك في أن كل شرطية صدقت مع بطلان مقدمها الذي هو الشرط ، وصحة تاليها [ ص: 154 ] الذي هو الجزاء - لا يصح التمثيل بها لهذه الآية بوجه من الوجوه ، وأن ما ظنه من صحة التمثيل لها بذلك غلط فاحش منه بلا شك ، وإيضاح ذلك أن كل شرطية كاذبة الشرط صادقة الجزاء عند إزالة الربط - لا بد أن يكون موجب ذلك فيها أحد أمرين لا ثالث لهما البتة . الفخر الرازي
وكلاهما يكون الصدق به من أجل أمر خاص لا يمكن وجود مثله في الآية الكريمة التي نحن بصددها ، بل هو مناقض لمعنى الآية .
والاستدلال بوجود أحد المتناقضين على وجود الآخر ضروري البطلان ، ونعني بأول الأمرين المذكورين كون الشرطية اتفاقية لا لزومية أصلا .
وبالثاني منهما كون الصدق المذكور من أجل خصوص المادة .
ومعلوم أن الصدق من أجل خصوص المادة لا عبرة به في العقليات ، وأنه في حكم الكذب لعدم اضطراده; لأنه يصدق في مادة ، ويكذب في أخرى .
والمعتبر إنما هو الصدق اللازم المضطرد ، الذي لا يختلف باختلاف المادة بحال .
ولا شك أن كل قضية شرطها محال لا يضطرد صدقها إلا إذا كان جزاؤها محالا خاصة .
فإن وجدت قضية باطلة الشرط صحيحة الجزاء ، فلا بد أن يكون ذلك ، لكونها اتفاقية ، أو لأجل خصوص المادة فقط .
فمثال وقوع ذلك لكونها اتفاقية قولك : إن كان زيد في السماء لم ينج من الموت .
فالشرط الذي هو كونه في السماء باطل ، والجزاء الذي هو كونه لم ينج من الموت صحيح .
وإنما صح هذا لكون هذه الشرطية اتفاقية .
ومعلوم أن الاتفاقية لا علاقة بين طرفيها أصلا ، فلا يقتضي ثبوت أحدهما ولا نفيه ثبوت الآخر ولا نفيه ، فلا ارتباط بين طرفيها في المعنى أصلا ، وإنما هو في اللفظ فقط .
فكون زيد في السماء لا علاقة له بعدم نجاته من الموت أصلا ، ولا ارتباط بينهما إلا في اللفظ ، فهو كقولك : إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل .
وقد قدمنا إيضاح الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في سورة [ ص: 155 ] " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] فراجعه .
ومعلوم أن قوله : قل إن كان للرحمن ولد لم يقل أحد إنها شرطية اتفاقية ، ولم يدع أحد أنها لا علاقة بين طرفيها أصلا .
ومثال وقوع ذلك لأجل خصوص المادة فقط - ما مثل به لهذه الآية الكريمة ، مع عدم انتباهه لشدة المنافاة بين الآية الكريمة وبين ما مثل لها به ، فإنه لما قال : إن الشرط الذي هو الفخر الرازي إن كان للرحمن ولد باطل ، والجزاء الذي هو : فأنا أول العابدين صحيح .
مثل لذلك بقوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم ، يعني أن قوله : إن كان الإنسان حجرا شرط باطل ، فهو كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فكون الإنسان حجرا ، وكون الرحمن ذا ولد - كلاهما شرط باطل .
فلما صح الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم - دل ذلك على أن الجزاء الصحيح في قوله : فأنا أول العابدين يصح ترتيبه على الشرط الباطل الذي هو إن كان للرحمن ولد .
وهذا غلط فاحش جدا ، وتسوية بين المتنافيين غاية المنافاة ; لأن الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم - إنما صدق لأجل خصوص المادة ، لا لمعنى اقتضاه الربط البتة .
وإيضاح ذلك أن النسبة بين الجسم والحجر ، والنسبة بين الإنسان والجسم - هي العموم والخصوص المطلق في كليهما .
فالجسم أعم مطلقا من الحجر ، والحجر أخص مطلقا من الجسم ، كما أن الجسم أعم من الإنسان أيضا عموما مطلقا ، والإنسان أخص من الجسم أيضا خصوصا مطلقا ; فالجسم جنس قريب للحجر ، وجنس بعيد للإنسان ، وإن شئت قلت : جنس متوسط له .
وإيضاح ذلك أن تقول في التقسيم الأول : الجسم إما نام ؛ أي يكبر تدريجا أو غير نام ، فغير النامي كالحجر مثلا ، ثم تقسم النامي تقسيما ثانيا ، فتقول : [ ص: 156 ] النامي إما حساس أو غير حساس ، فغير الحساس منه كالنبات .
ثم تقسم الحساس تقسيما ثالثا ، فتقول : الحساس إما ناطق أو غير ناطق ، والناطق منه هو الإنسان .
فاتضح أن كلا من الإنسان والحجر يدخل في عموم الجسم ، والحكم بالأعم على الأخص صادق في الإيجاب بلا نزاع ولا تفصيل .
فقولك : الإنسان جسم صادق في كل تركيب ، ولا يمكن أن يكذب بوجه ، وذلك للملابسة الخاصة بينهما من كون الجسم جنسا للإنسان ، وكون الإنسان فردا من أفراد أنواع الجسم ، فلأجل خصوص هذه الملابسة بينهما - كان الحكم على الإنسان بأنه جسم صادقا على كل حال ، سواء كان الحكم بذلك غير معلق على شيء ، أو كان معلقا على باطل أو حق .
فالاستدلال : يصدق هذا المثال على صدق الربط بين الشرط والجزاء في قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين بطلانه كالشمس في رابعة النهار .
والعجب كل العجب من عاقل يقوله; لأن المثال المذكور إنما صدق ؛ لأن الإنسان يشمله مسمى الجسم .
أما من كان له ولد فالنسبة بينه وبين المعبود الحق هي تباين المقابلة ; لأن المقابلة بين المعبود بحق وبين والد أو ولد هي المقابلة بين الشيء ومساوي نقيضه ; لأن من يولد أو يولد له لا يمكن أن يكون معبودا بحق بحال .
وإيضاح المنافاة بين الأمرين أنك لو قلت : الإنسان جسم - لقلت الحق ، ولو قلت : المولود له معبود ، أو المولود معبود - قلت الباطل الذي هو الكفر البواح .
ومما يوضح ما ذكرنا إجماع جميع النظار على أنه إن كانت إحدى مقدمتي الدليل باطلة ، وكانت النتيجة صحيحة - أن ذلك لا يكون إلا لأجل خصوص المادة فقط ، وأن ذلك الصدق لا عبرة به ، فحكمه حكم الكذب ، ولا يعتبر إلا الصدق اللازم المضطرد في جميع الأحوال .
فلو قلت مثلا : كل إنسان حجر ، وكل حجر جسم ; لأنتج من الشكل الأول كل [ ص: 157 ] إنسان جسم ، وهذه النتيجة في غاية الصدق كما ترى .
مع أن المقدمة الصغرى من الدليل التي هي قولك : كل إنسان حجر في غاية الكذب كما ترى .
وإنما صدقت النتيجة لخصوص المادة كما أوضحنا ، ولولا ذلك لكانت كاذبة ; لأن النتيجة لازم الدليل ، والحق لا يكون لازما للباطل ، فإن وقع شيء من ذلك فلخصوص المادة كما أوضحنا .
وبهذا التحقيق تعلم أن الشرط الباطل لا يلزم ، وتطرد صحة ربطه ، إلا بجزاء باطل مثله .
وما يظنه بعض أهل العلم من أن قوله - تعالى - : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك [ 10 \ 94 ] كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين - فهو غلط فاحش ، والفرق بين معنى الآيتين شاسع ، فظن استوائها في المعنى باطل .
وإيضاح ذلك أن قوله - تعالى - : فإن كنت في شك الآية ، معناه المقصود منه جار على الأسلوب العربي ، لا إبهام فيه ; لأنا أوضحنا سابقا أن مدار صدق الشرطية على صحة الربط بين شرطها وجزائها ، فهي صادقة ولو كذب طرفاها عند إزالة الربط كما تقدم إيضاحه قريبا .
فربط قوله : فإن كنت في شك بقوله : فاسأل الذين يقرءون الكتاب - ربط صحيح لا إشكال فيه ; لأن الشاك في الأمر شأنه أن يسأل العالم به عنه كما لا يخفى ، فهي قضية صادقة ، مع أن شرطها وجزاءها كلاهما باطل بانفراده ، فهي كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فهي شرطية صادقة لصحة الربط بين طرفيها ، وإن كان الطرفان باطلين عند إزالة الربط .
أما قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين على القول بأن ( إن ) شرطية - لا تمكن صحة الربط بين شرطها وجزائها البتة ; لأن الربط بين المعبود وبين كونه والدا أو ولدا لا يصح بحال .
ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " فنفى الطرفين [ ص: 158 ] مع أن الربط صحيح ، ولا يمكن أن ينفي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره الطرفين في الآية الأخرى ، فلا يقول هو ولا غيره : ليس له ولد ، ولا أعبده . لا أشك ، ولا أسأل أهل الكتاب
وعلى كل حال ، فالربط بين الشك وسؤال الشاك للعالم أمر صحيح ، بخلاف الربط بين العبادة وكون المعبود والدا أو ولدا ، فلا يصح .
فاتضح الفرق بين الآيتين ، وحديث : " " . رواه لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب مرسلا . قتادة بن دعامة
وبنحوه قال بعض الصحابة فمن بعدهم ، ومعناه صحيح بلا شك .
وما قاله في تفسير هذه الآية الكريمة يستغربه كل من رآه ; لقبحه وشناعته ، ولم أعلم أحدا من الكفار في ما قص الله في كتابه عنهم يتجرأ على مثله أو قريب منه ، وهذا مع عدم فهمه لما يقول وتناقض كلامه . الزمخشري
وسنذكر هنا كلامه القبيح للتنبيه على شناعة غلطه الديني واللغوي .
قال في الكشاف ما نصه : قل إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ، ( فأنا أول ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وألا يترك للناطق به شبهة إلا مضمحلة ، مع الترجمة عن نفسه بإثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها .
ونظيره أن يقول العدلي للمجبر : إن كان الله - تعالى - خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول : هو شيطان ، وليس بإله .
فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله - تعالى - خالقا للكفر ، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا ، مع الدلالة على سماحة المذهب وضلالة الذاهب إليه ، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن [ ص: 159 ] نفسه بالبراءة منه ، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه .
ونحو هذه الطريقة قول - رحمه الله - سعيد بن جبير للحجاج حين قال له : أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى - : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك .
وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد ، المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : ( إن كان للرحمن ولد ) في زعمكم ( فأنا أول العابدين ) الموحدين لله المكذبين قولكم لإضافة الولد إليه . ا هـ
الغرض من كلام . الزمخشري
وفي كلامه هذا من الجهل بالله وشدة الجراءة عليه ، والتخبط والتناقض في المعاني اللغوية - ما الله عالم به .
ولا أظن أن ذلك يخفى على عاقل تأمله .
وسنبين لك ما يتضح به ذلك ; فإنه أولا قال : ( إن كان للرحمن ولد ) وضح ذلك ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ( فأنا أول ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .
فكلامه هذا لا يخفى بطلانه على عاقل ; لأنه على فرض صحة نسبة الولد إليه ، وقيام البرهان الصحيح والحجة الواضحة على أنه له ولد - فلا شك أن ذلك يقتضي أن ذلك الولد لا يستحق العبادة بحال ، ولو كان في ذلك تعظيم لأبيه ; لأن أباه مثله في عدم استحقاق العبادة ، والكفر بعبادة كل والد وكل مولود شرط في إيمان كل موحد ، فمن أي وجه يكون هذا الكلام صحيحا .
أما في اللغة العربية فلا يكون صحيحا البتة .
وما أظنه يصح في لغة من لغات العجم ; فالربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء لا يصح بوجه .
فمعنى الآية عليه لا يصح بوجه ; لأن المعلق على المحال لا بد أن يكون محالا مثله .
[ ص: 160 ] في كلامه كلما أراد أن يأتي بمثال في الآية خارجا عنها اضطر إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا . والزمخشري
فضربه للآية المثل بقصة ابن جبير مع الحجاج - دليل واضح على ما ذكرنا وعلى تناقضه وتخبطه .
فإنه قال فيها : إن الحجاج قال : لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى . لسعيد بن جبير
قال سعيد للحجاج : لو علمت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك .
فهو يدل على أنه علق المحال على المحال ، ولو كان غير متناقض للمعنى الذي مثل له به لقال : لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله . الزمخشري
فقوله : لو علمت أن ذلك إليك في معنى قل إن كان للرحمن ولد ، فنسبة الولد والشريك إليه معناهما في الاستحالة وادعاء النقص واحد .
فلو كان سعيد يفهم الآية كفهمك الباطل لقال : لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله .
ولكنه لم يقل هذا ; لأنه ليس له معنى صحيح يجوز المصير إليه .
وكذلك تمثيل للآية الكريمة في كلامه القبيح البشع الشنيع الذي يتقاصر عن التلفظ به كل كافر . الزمخشري
فقد اضطر فيه أيضا إلى ألا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا شنيعا ; فإنه قال فيه : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر : إن كان الله - تعالى - خالقا للكفر في القلوب ، ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول هو شيطان ، وليس بإله .
فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي : إن كان الله خالقا للكفر في القلوب . . . إلخ .
فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم - مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله ، وهذا المستحيل في زعمه الباطل ، إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل [ ص: 161 ] وهو زعمه الخبيث أن الله إن كان خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه - فهو شيطان لا إله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - .
فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله ، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية .
لأنه جعل قوله : إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى " إن كان للرحمن ولد " في أن الشرط فيهما مستحيل ، وجعل قوله في الله إنه شيطان لا إله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - .
كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أول العابدين .
فاللازم لكلامه أن يقول : لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين له ، ولا يخفى أن الادعاء على الله أنه شيطان مناقض لقوله : فأنا أول العابدين .
وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه وشدة ضلاله وتناقضه ; لشناعته ووضوح بطلانه ، فهي عبارات مزخرفة ، وشقشقة لا طائل تحتها ، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية ، والتناقض الواضح ، وكم من كلام مليء بزخرف القول ، وهو عقيم لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته كما قيل : وإني وإني ثم إني وإنني إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا فظل يعمل أياما رويته وشبه الماء بعد الجهد بالماء
واعلم أن الكلام على القدر وخلق أفعال العباد ، قدمنا منه جملا كافية في هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] . ولا يخفى تصريح القرآن بأن الله - تعالى - خالق كل شيء ، كما قال - تعالى - : الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] . وقال - تعالى - : وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] . وقال : هل من خالق غير الله [ 35 \ 2 ] . وقال - تعالى - : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] .
فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله يقتضي أن لله شيطان - سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا - . الزمخشري
[ ص: 162 ] وجزى بما هو أهله . الزمخشري
الأمر الرابع : هو دلالة استقراء القرآن العظيم أن الله - تعالى - إذا أراد أن يفرض المستحيل ليبين الحق بفرضه - علقه أولا بالأداة التي تدل على عدم وجوده ، وهي لفظة ( لو ) ، ولم يعلق عليه البتة إلا محالا مثله ، كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] . وقوله - تعالى - : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا الآية [ 21 \ 17 ] .
وأما تعليق ذلك بأداة لا تقتضي عدم وجوده كلفظة ( إن ) مع كون الجزاء غير مستحيل - فليس معهودا في القرآن .
ومما يوضح هذا المعنى الذي ذكرنا - المحاورة التي ذكرها جماعة من المفسرين ، التي وقعت بين النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة ، وهي وإن كانت أسانيدها غير قائمة ، فإن معناها اللغوي صحيح .
وهي أن النضر بن الحارث كان يقول : الملائكة بنات الله ، فأنزل الله قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد الآية .
فقال النضر للوليد بن المغيرة : ألا ترى أنه قد صدقني ؟
فقال الوليد : لا ، ما صدقك ، ولكنه يقول : ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ، أي الموحدين من أهل مكة المنزهين له عن الولد . فمحاورة هذين الكافرين ، العالمين بالعربية مطابقة لما قررنا .
لأن النضر قال : إن معنى الآية على أن ( إن ) شرطية مطابق لما يعتقده الكفار من نسبة الولد إلى الله ، وهو معنى محذور وأن الوليد قال : إن ( إن ) نافية ، وأن معنى الآية على ذلك هو مخالفة الكفار وتنزيه الله عن الولد .
وبجميع ما ذكرنا يتضح أن ( إن ) في الآية الكريمة نافية .
وذلك مروي عن ابن عباس والحسن والسدي وقتادة وابن زيد وزهير بن محمد وغيرهم .