التحقيق - إن شاء الله - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه بمعنى الذين ، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبعث .
والدليل من القرآن على أن ( الذي ) بمعنى الذين ، وأن المراد به العموم - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه مبتدأ خبره أولئك الذين حق عليهم القول الآية . قوله - تعالى - :
والإخبار عن لفظة الذي في قوله : أولئك الذين حق عليهم القول بصيغة الجمع - صريح في أن المراد بالذي العموم لا الإفراد . وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في - رضي الله عنهما - ليس بصحيح ، كما جزمت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عائشة - رضي الله عنها - ببطلانه .
وفي نفس آية " الأحقاف " هذه دليل آخر واضح على بطلانه ، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول ، وهو قوله : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] .
[ ص: 225 ] ومعلوم أن - رضي الله عنهما - أسلم وحسن إسلامه ، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة - رضي الله عنهم - . عبد الرحمن بن أبي بكر
وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق ( الذي ) وإرادة ( الذين ) ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ; لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها ، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع
فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن - هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " . وقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية [ 2 \ 17 ] . أي كمثل الذين استوقدوا ، بدليل قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي بنورهم و تركهم ، والواو في لا يبصرون .
وقوله - تعالى - في " البقرة " أيضا : كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] أي كالذين ينفقون ; بدليل قوله : لا يقدرون على شيء مما كسبوا [ 2 \ 264 ] . وقوله في " الزمر " : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ 39 \ 33 ] . وقوله في " التوبة " : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 \ 69 ] أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
وقول الراجز :
يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد
إلا الذي قاموا بإطراف المسد
فا أمر أو مضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد
والنون الأولى نون الرفع ، والثانية نون الوقاية ، كما لا يخفى .
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة : أتعدانني ، بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة . والكسائي
وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة .
وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة ، والهمزة للإنكار .
وقوله : أن أخرج أي أبعث من قبري حيا بعد الموت .
والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني ، يعني أتعدانني الخروج من قبري حيا بعد الموت ، والحال قد مضت القرون ، أي هلكت الأمم الأولى ، ولم يحي منهم أحد ، ولم يرجع بعد أن مات .
وهما ، أي والداه ، يستغيثان الله ، أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث ، ويقولان لولدهما : ويلك آمن ، أي بالله وبالبعث بعد الموت .
والمراد بقولهما : ويلك - حثه على الإيمان . إن وعد الله حق ، أي وعده حق لا شك فيه ، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث : ما هذا إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت إلا أساطير الأولين . بالبعث بعد الموت
والأساطير جمع أسطورة . وقيل : جمع إسطارة ، ومراده بها ما سطره الأولون ، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها .
وقوله : أولئك ترجع الإشارة فيه إلى العاقين المكذبين بالبعث المذكورين في قوله : والذي قال لوالديه أف لكما الآية .
[ ص: 227 ] وقوله : حق عليهم القول أي وجبت عليهم كلمة العذاب .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .