مسألة
يؤخذ من كلام
ابن العربي هذا ما يقوله الفقهاء في
nindex.php?page=treesubj&link=16975ذكر اسم الله عند الذبح أن يقتصر على قوله : بسم الله ، ولا يقول الرحمن الرحيم ؛ لأن اسم الرحمن الرحيم يقتضي الرحمة ، وهي لا يتناسب معها الذبح ورسول الروح .
ويؤيد هذا ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة أنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009510كان إذا ذبح قال : " بسم الله ، والله أكبر " أي : أكبر وأقدرك عليها ، وهو أكبر منك عليك منها .
فإذا فقه الإنسان أسماء الله الحسنى على هذا النحو ، كان حقا قد أحصاها وحفظها في استعمالها في معانيها ، فكان حقا من أهل الجنة ، والعلم عند الله تعالى .
ولقد استوقفني طويلا مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلا لها وختاما وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد ، وإقامة الدليل ، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل ، فمكثت طويلا أتطلب ربطها بما قبلها ، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثر من شرح المفردات ، وإيراد بعض التنبيهات مما لا ينفذ إلى أعماق الموضوع ، ولا يشفي عليلا في مجتمعاتنا الحديثة ، أو يذهب شبه المدنية المادية ، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها فإذا بها تبدأ أولا بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم ، وهذا أمر فوق مستوى الإدراك الإنساني ، ثم تسوق أعظم حدث تشهده
المدينة بعد الهجرة من إخراج
اليهود ، ولم يكن مظنونا إخراجهم ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فكانوا موضع العبرة والموعظة .
ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين فريق المؤمنين ، والكافرين .
يتمثل الفريق الأول في
المهاجرين والأنصار وما كانوا عليه من أخوة ، ومودة ، ورحمة ، وعطاء ، وإيثار على النفس .
ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين ،
واليهود ، وما كان بينهم من مواعدة ، وإغراء ، وتحريض ، ثم تخل عنهم وخذلان لهم .
[ ص: 76 ] فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمن ، وحزب الشيطان ، وهي صورة المجتمع في
المدينة آنذاك .
ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنتهاهما وعدم استوائهما ، وفي ذلك تقرير المصير :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=20لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [ 59 \ 20 ] .
وهذه أخطر قضية في كل أمة أي : تقرير مصيرها ، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات ، ولو كانت جبلا أشم أو حجرا أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق ، والأمة والرسالة ، والبدء والنهاية ، وصراع الحق مع الباطل ، والكفر والإيمان ، والنفوس في الشح والإحسان ، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية .
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=21وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض ، وتنقل من موقف إلى موقف ، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته ، نطق بتسبيحه ، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده ، فأوجده على مقتضى علمه به ، وسيره على النحو الذي أوجده عليه ، علم خذلان المنافقين
لليهود قبل أن يحرضوهم ، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم ، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله ، فحث العباد بالأخذ به ، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة ، كان حقا هو الله وحده .
ثم مرة أخرى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=23هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، برهان آخر في صور متعددة ، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدوس ، الملك المهيمن على ملكه القدوس ، المسلم من كل نقص ، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=1تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] .
وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معا عالم الغيب والشهادة ، والملك القدوس والسلام المهيمن ، فنجدها مترابطة متلازمة ؛ لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه .
[ ص: 77 ] والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه ، فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات : العلم والملك والتقديس والهيمنة ، حصل الكمال والجلال ، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر ، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=24هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى ، وهنا ، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد .
و ( البارئ ) الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير ، وليس كل من قدر شيئا أوجده إلا الله .
و ( المصور ) المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها ، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى ، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه .
وبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق ، فإن الخلق والتقدير لابد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب ، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة ، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره .
و ( المهيمن ) : يسير ما يوجده على مقتضى ما يقدره .
والذي قدر فهدى ، العزيز الذي لا يقهر الجبار الذي يقهر كل شيء لإرادته ، وتقديره ، ويخضعه لهيمنته .
( المتكبر ) الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق ، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته ، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون .
وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=24هو الله الخالق البارئ المصور وهو أعظم دليل كما تقدم ، وهو كما قال : دليل الإلزام ؛ لأن الخلق لابد لهم من خالق ، وهذه قضية منطقية مسلمة ، وهي أن كل موجود لابد له من موجد ، وقد ألزمهم في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=35أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وهذا بالسير والتقسيم أن يقال : إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي : من العدم ، ومعلوم أن
[ ص: 78 ] العدم لا يخلق شيئا ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، والعدم ليس أمرا وجوديا حتى يمكن له أن يوجد موجودا .
أم هم الخالقون ؟
وهم أيضا يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم ، فيبقى المخلوق لابد له من خالق ، وهو الله تعالى : الخالق البارئ .
ولو قيل من جانب المنكر : إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها ، كالأبوين للحيوان ، وكالحرث والسقي للنبات . . . إلخ ، فجاء قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=24المصور ،
nindex.php?page=treesubj&link=33679فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذكورة أو الأنوثة ، أو من جنس اللون ، والطول والقصر والشبه ؟
الجواب : لا وكلا ، بل ذلك لله وحده ، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=49لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=50أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 ] .
وكذلك في النبات توضع الحبة وتسقى بالماء ، فالتربة واحدة ، والماء واحد ، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض ، وذاك نبت على ساق ، وهذا كرم على عرش ، وذاك نخل باسقات ، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها ، من استدارتها أو استطالتها أو غير ذلك ؟ وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض ؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معا ، لا وكلا . إنه هو الله الخالق البارئ المصور ، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض طوعا وكرها .
وهنا عود على بدء يختم السورة بما بدأت به مع بيان موجباته واستحقاقه ، وآيات وحدانيته ، سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم .
مَسْأَلَةٌ
يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ
ابْنِ الْعَرَبِيِّ هَذَا مَا يَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=16975ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَلَا يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ ، وَهِيَ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَهَا الذَّبْحُ وَرَسُولُ الرُّوحِ .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009510كَانَ إِذَا ذَبَحَ قَالَ : " بِسْمِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ " أَيْ : أَكْبَرُ وَأَقْدَرَكَ عَلَيْهَا ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ عَلَيْكَ مِنْهَا .
فَإِذَا فَقِهَ الْإِنْسَانُ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى عَلَى هَذَا النَّحْوِ ، كَانَ حَقًّا قَدْ أَحْصَاهَا وَحَفِظَهَا فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي مَعَانِيهَا ، فَكَانَ حَقًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَقَدِ اسْتَوْقَفَنِي طَوِيلًا مَجِيءُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي نِهَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ تَذْيِيلًا لَهَا وَخِتَامًا وَبِأُسْلُوبِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ لِقَضَايَا التَّوْحِيدِ ، وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ ، وَإِلْزَامِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ ، فَمَكَثْتُ طَوِيلًا أَتَطَلَّبُ رَبْطَهَا بِمَا قَبْلَهَا ، فَلَمْ أَجِدْ فِي كُلِّ مَا عَثَرْتُ عَلَيْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ أَكْثَرَ مِنْ شَرْحِ الْمُفْرَدَاتِ ، وَإِيرَادِ بَعْضِ التَّنْبِيهَاتِ مِمَّا لَا يَنْفُذُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمَوْضُوعِ ، وَلَا يَشْفِي عَلِيلًا فِي مُجْتَمَعَاتِنَا الْحَدِيثَةِ ، أَوْ يُذْهِبُ شُبَهَ الْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ ، فَرَجَعْتُ إِلَى السُّورَةِ بِكَامِلِهَا أَتَأَمَّلُ مَوْضُوعَهَا فَإِذَا بِهَا تَبْدَأُ أَوَّلًا بِتَسْبِيحِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، وَهَذَا أَمْرٌ فَوْقَ مُسْتَوَى الْإِدْرَاكِ الْإِنْسَانِيِّ ، ثُمَّ تَسُوقُ أَعْظَمَ حَدَثٍ تَشْهَدُهُ
الْمَدِينَةُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ إِخْرَاجِ
الْيَهُودِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَظْنُونًا إِخْرَاجُهُمْ ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا فَكَانُوا مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ .
ثُمَّ تَأْتِي لِمَوْقِفِ فَرِيقَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْكَافِرِينَ .
يَتَمَثَّلُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فِي
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أُخُوَّةٍ ، وَمَوَدَّةٍ ، وَرَحْمَةٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَإِيثَارٍ عَلَى النَّفْسِ .
وَيَتَمَثَّلُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ فِي الْمُنَافِقِينَ ،
وَالْيَهُودِ ، وَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ مُوَاعَدَةٍ ، وَإِغْرَاءٍ ، وَتَحْرِيضٍ ، ثُمَّ تَخَلٍّ عَنْهُمْ وَخِذْلَانٍ لَهُمْ .
[ ص: 76 ] فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِحِزْبَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ حِزْبُ الرَّحْمَنِ ، وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ ، وَهِيَ صُورَةُ الْمُجْتَمَعِ فِي
الْمَدِينَةِ آنَذَاكَ .
ثُمَّ تَأْتِي إِلَى مُقَارَنَةٍ أُخْرَى بَيْنَ نَتَائِجِ هَذَيْنِ الْحِزْبَيْنِ وَمُنْتَهَاهُمَا وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرُ الْمَصِيرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=20لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [ 59 \ 20 ] .
وَهَذِهِ أَخْطَرُ قَضِيَّةٍ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أَيْ : تَقْرِيرُ مَصِيرِهَا ، ثُمَّ بَيَانُ حَقِيقَةِ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ وَفَعَالِيَّتِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ ، وَلَوْ كَانَتْ جَبَلًا أَشَمَّ أَوْ حَجَرًا أَصَمَّ لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَرَأَيْتُهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، فَإِذَا بِهَا قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَوْضُوعِ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ ، وَالْأُمَّةِ وَالرِّسَالَةِ ، وَالْبَدْءِ وَالنِّهَايَةِ ، وَصِرَاعِ الْحَقِّ مَعَ الْبَاطِلِ ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ، وَالنُّفُوسِ فِي الشُّحِّ وَالْإِحْسَانِ ، وَكُلُّهَا مَوَاقِفُ عَمَلِيَّةٌ وَمَنَاهِجُ وَاقِعِيَّةٌ وَأَمْثِلَةٌ بَيَانِيَّةٌ .
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=21وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ .
فَإِذَا مَا تَوَجَّهَ الْفِكْرُ فِي هَذَا الْعَرْضِ ، وَتَنَقَّلَ مِنْ مَوْقِفٍ إِلَى مَوْقِفٍ ، وَتَأَمَّلَ صُنْعَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ وَآيَاتِهِ ، نَطَقَ بِتَسْبِيحِهِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، عَلِمَ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ الْعَالَمُ قَبْلَ وُجُودِهِ ، فَأَوْجَدَهُ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ بِهِ ، وَسَيَّرَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَوْجَدَهُ عَلَيْهِ ، عَلِمَ خِذْلَانَ الْمُنَافِقِينَ
لِلْيَهُودِ قَبْلَ أَنْ يُحَرِّضُوهُمْ ، فَكَانَ كَمَا عَلِمَ سُبْحَانَهُ وَحَذَّرَ مِنْ مُشَابَهَتِهِمْ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى جَبَلٍ مَاذَا يَكُونُ حَالُهُ ، فَحَثَّ الْعِبَادَ بِالْأَخْذِ بِهِ ، وَلِعِلْمِهِ هَذَا بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، كَانَ حَقًّا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ .
ثُمَّ مَرَّةً أُخْرَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=23هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، بُرْهَانٌ آخَرُ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، وَبَرَاهِينَ مُتَنَوِّعَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ، الْمَلِكُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مُلْكِهِ الْقُدُّوسُ ، الْمُسَلَّمُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ ، الْمُسَيْطِرُ عَلَى مَا فِي مُلْكِهِ كُلِّهِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=1تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 67 \ 1 ] .
وَهُنَا وَقْفَةٌ لِتَأَمُّلِ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَعًا عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَالْمَلِكِ الْقُدُّوسِ وَالسَّلَامِ الْمُهَيْمِنِ ، فَنَجِدُهَاِ مُتَرَابِطَةً مُتَلَازِمَةً ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ وَلَمْ يُهَيْمِنْ عَلَى شَيْءٍ فَلَا فَعَالِيَّةَ لِعِلْمِهِ .
[ ص: 77 ] وَالْمَلِكُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ وَلَمْ يَتَقَدَّسْ عَنِ النَّقْصِ لَا هَيْمَنَةَ لَهُ عَلَى مُلْكِهِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ كُلُّ ذَلِكَ وَتِلْكَ الصِّفَاتُ : الْعِلْمُ وَالْمُلْكُ وَالتَّقْدِيسُ وَالْهَيْمَنَةُ ، حَصَلَ الْكَمَالُ وَالْجَلَالُ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ ، وَلَا يُشْرِكُهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=24هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ، وَهُنَا ، فِي نِهَايَةِ هَذَا السِّيَاقِ يَقِفُ الْمُؤْمِنُ وَقْفَةَ إِجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ لِلَّهِ فَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ قَبْلَ الْإِيجَادِ .
وَ ( الْبَارِئُ ) الْمُوجِدُ مِنَ الْعَدَمِ عَلَى مُقْتَضَى الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَّرَ شَيْئًا أَوْجَدَهُ إِلَّا اللَّهُ .
وَ ( الْمُصَوِّرُ ) الْمُشَكِّلُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي أَوْجَدَهُ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يُفْرِدْ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ مَوْجُودَاتِهِ عَلَى صُورَةٍ تَخْتَصُّ بِهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي خَلْقِ اللَّهِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ كُلٍّ فِي صُورَةٍ تَخُصُّهُ .
وَبِالرُّجُوعِ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى أَوَّلِ السِّيَاقِ ، فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالتَّقْدِيرَ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ بِمُوجَبِ الْعِلْمِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ أَوْ لِلْمُسْتَقْبَلِ الْغَائِبِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ وَالْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْقَادِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ يُوجِدُ مَا يُقَدِّرُهُ .
وَ ( الْمُهَيْمِنُ ) : يُسَيِّرُ مَا يُوجِدُهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا يُقَدِّرُهُ .
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ، الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُقْهَرُ الْجَبَّارُ الَّذِي يَقْهَرُ كُلَّ شَيْءٍ لِإِرَادَتِهِ ، وَتَقْدِيرِهِ ، وَيُخْضِعُهُ لِهَيْمَنَتِهِ .
( الْمُتَكَبِّرُ ) الَّذِي لَا يَتَطَاوَلُ لِكِبْرِيَائِهِ مَخْلُوقٌ ، وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي صِفَاتِهِ ، تَكَبَّرَ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ أَوْ يُشَارِكَهُ أَحَدٌ فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
وَفِي نِهَايَةِ السِّيَاقِ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ الْمُلْزِمِ وَانْتِزَاعُ الِاعْتِرَافِ وَالتَّسْلِيمِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=24هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ وَهُوَ أَعْظَمُ دَلِيلٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ : دَلِيلُ الْإِلْزَامِ ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ لَابُدَّ لَهُمْ مِنْ خَالِقٍ ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَنْطِقِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَابُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ ، وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=35أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [ 52 \ 35 ] ، وَهَذَا بِالسَّيْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنْ يُقَالَ : إِمَّا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ خَلَقَهُمْ أَيْ : مِنَ الْعَدَمِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
[ ص: 78 ] الْعَدَمَ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ فَاقِدَ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُمْكِنَ لَهُ أَنْ يُوجِدَ مَوْجُودًا .
أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ؟
وَهُمْ أَيْضًا يَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَيَبْقَى الْمَخْلُوقُ لَابُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى : الْخَالِقُ الْبَارِئُ .
وَلَوْ قِيلَ مِنْ جَانِبِ الْمُنْكِرِ : إِنَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ وُجُودِ الْمَوْجُودِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى أَسْبَابٍ نُشَاهِدُهَا ، كَالْأَبَوَيْنِ لِلْحَيَوَانِ ، وَكَالْحَرْثِ وَالسَّقْيِ لِلنَّبَاتِ . . . إِلَخْ ، فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=24الْمُصَوِّرُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=33679فَهَلِ الْأَبَوَانِ يَمْلِكَانِ تَصْوِيرَ الْجَنِينِ مِنْ جِنْسِ الذُّكُورَةِ أَوِ الْأُنُوثَةِ ، أَوْ مِنْ جِنْسِ اللَّوْنِ ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالشَّبَهِ ؟
الْجَوَابُ : لَا وَكَلَّا ، بَلْ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=49لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=50أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [ 42 \ 49 ] .
وَكَذَلِكَ فِي النَّبَاتِ تُوضَعُ الْحَبَّةُ وَتُسْقَى بِالْمَاءِ ، فَالتُّرْبَةُ وَاحِدَةٌ ، وَالْمَاءُ وَاحِدٌ ، فَمَنِ الَّذِي يُصَوِّرُ شَكْلَ النَّبَاتِ هَذَا نَجْمٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَذَاكَ نَبْتٌ عَلَى سَاقٍ ، وَهَذَا كَرْمٌ عَلَى عَرْشٍ ، وَذَاكَ نَخْلٌ بَاسِقَاتٌ ، فَإِذَا طَلَعَتِ الثَّمَرَةُ فِي أَوَّلِ طَوْرِهَا فَمَنِ الَّذِي يُصَوِّرُهَا فِي شَكْلِهَا ، مِنِ اسْتِدَارَتِهَا أَوِ اسْتِطَالَتِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا تَطَوَّرَتْ إِلَى النُّضْجِ فَمَنِ الَّذِي صَوَّرَهَا فِي لَوْنِهَا الْأَحْمَرِ أَوِ الْأَصْفَرِ أَوِ الْأَسْوَدِ أَوِ الْأَخْضَرِ أَوِ الْأَبْيَضِ ؟ هَلْ هِيَ التُّرْبَةُ أَوِ الْمَاءُ أَوْ هُمَا مَعًا ، لَا وَكَلَّا . إِنَّهُ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ، سُبْحَانَهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا .
وَهُنَا عَوْدٌ عَلَى بَدْءٍ يَخْتِمُ السُّورَةَ بِمَا بَدَأَتْ بِهِ مَعَ بَيَانِ مُوجِبَاتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ ، وَآيَاتِ وَحْدَانِيَّتِهِ ، سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .