تنبيه
قد أوردنا نصوص معنى سجيل ، وترجيح الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : أنها حجارة من طين شديد القوة تنبيها على ما قيل من استبعاد ذلك ، وردا على من صرف معناها إلى غير الحجارة المحسوسة .
أما من استبعدها ، فقد حكاه بقوله : واعلم أن من الناس من أنكر ذلك . الفخر الرازي
وقالوا : لو جوزنا أن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله ، لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خاليا عن الثقل ، وأن يكون في وزن التبنة ، وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات .
فإنه متى جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار ، ولا نراها ، وأن يحصل الإدراك في عين الضرير ، حتى يكون هو بالمشرق ، ويرى قطعة من الأرض بالأندلس ، وكل ذلك محال .
ثم قال : واعلم أن ذلك جائز في مذهبنا ، إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع .
وهذا القول يحكيه المتوفى سنة 606 ستمائة وست ، فنرى استبعادهم إياها مبني على تحكيم العقل ، وهذا باطل ; لأن خوارق العادات دائما فوق قانون العقل ، بل إن تصورات العقل نفسه منشؤها من تصوراتنا لما نشاهده . الفخر الرازي
وإذا حدث العقل بما لم يشهده أو يعلم كنه وجوده لاستبعده كما هو في واقعنا اليوم ، لو حدثت به العقول سابقا من نقل الحديث ، والصورة على الأثير ، وتوجيه الطائرات وأمثالها ، لما قوي على تصورها لأنها فوق نطاق محسوساته ومشاهداته .
وحتى نحن لو لم يسايرها من علم بما يحمله الأثير من تيار كهربائي ، وما له من دور فعال في ذلك لما أمكننا تصوره .
ثم من يمنع شيئا من ذلك على قدرته تعالى .
وقد أخبرنا أن تلك الجبال سيأتي يوم تكون فيه كالعهن المنفوش أخف من التبنة ، [ ص: 105 ] التي مثلوا بها ، بل ستكون أقل من ذلك ، كما قال تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، فظهر بطلان هذا القول الذي استبعدها لعدم إدراك العقل لها .
أما من يؤول هذا المعنى إلى معنى آخر ، فهو قريب من الأول من حيث المبدأ ، إلا أنه أثبت الأصل وفسره بما يتناسب والعقل .
وهو محكي عن الإمام محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا ، إذ فسر ، بأنه وباء الجدري . الحجارة من سجيل
وبالتالي : فالطير الأبابيل : هي البعوض وما أشبهه .
وقد اعتذر له السيد قطب : بأن الدافع لذلك هو ما كان شائعا في عصره من موجات متضاربة ، موجة انحراف في التفكير نحو الإسلام واستغلال الإسرائيليات ، كمثال على ما يشبه الأباطيل في تشويه حقائق الإسلام عند غير المسلمين .
ومن ناحية أخرى طوفان علمي حديث ، من إنتاج العقل البشري فبدلا من أن تثبت حادثة كهذه صرفت إلى ما يألفه العقل من إيقاع ميكروب الجدري بجيش أبرهة حتى أهلكه ، لكي لا يتصادم في إثبات الحادثة على ما نص عليه القرآن بواقع العقلية العلمانية الحديثة .
هذا ملخص ما اعتذر به السيد قطب عن هذا القول .
ولكن من الناحية العلمية والنصوص القرآنية ، فقد تقدم : أن الحجارة التي من سجيل ، جاء النص على أنها ليست خاصة بهؤلاء القوم ، بل ألقيت على قوم لوط ، بعد أن جعل عاليها سافلها ، فما موقع الجدري منهم بعد إهلاكهم بإفكها المذكورة ؟
ثم جاء أيضا : أنها من طين ، فأين الطين من الجراثيم الجدرية ؟
ومن الناحية العلمية : من أين جيء بمكروب الجدري ؟ وأين كان قبل أن تأتي به الطير الأبابيل ؟
ومتى كان ميكروب الجدري أو غيره يميز بين قرشي وحبشي ؟
ومتى كان أي ميكروب يفتك بقوم وبسرعة ، فجعلهم كعصف مأكول ، مع أن : فجعلهم ، تشعر بالسرعة في إهلاكهم ، والعصف اليابس الذي تعصف به الريح لخفته .
[ ص: 106 ] ومتى كان وجود الجدري طفرة وفجاءة ، إنه يظهر في حالات فردية ، ثم ينتشر هذا من الناحية العلمية ، وإدراك العقل ، لما عرف من ميكروب الجدري .
ولكن ملابسات الحادثة تمنع من تصور ذلك عقلا لعدم انتشاره في جميع أفراد المنطقة ، ولعدم تأثيره فعلا بهذه الصورة ، ولعدم أيضا تصور مجيئه فجاءة ، فدل العقل نفسه على عدم صحة هذا القول .
ثم من ناحية أخرى إذا رددنا خوارق العادات لعدم تصور العقل لها ، فكيف نثبت مثل حنين الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ، وتسبيح الحصى في كفه صلوات الله وسلامه عليه ؟
وقد شاهد العقل الصورة ، وهي خروج الناقة من الصخرة لقوم صالح ، بل إننا الآن بالحس والعقل نشاهد ما لا ندرك كنهه في وسائل الإعلام ، ونسمع الصوت من الجماد مسجلا على شريط بسيط جدا .
فهل ينفي الباقي ؟ بل كيف أثبت النصارى لعيسى ابن مريم عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص . وإحياء الموتى ، وعمل الطير من الطين ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله .
وكيف أثبت اليهود لموسى أمر العصا وشق البحر ؟ وأين العقل من ذلك كله ؟
الواقع أننا في كل زمان ومع كل قضية ، يجب أن نلتزم جانب الاعتدال ، لا هو جري وراء كل خبر ، ولو كان إسرائيليا ولا هو رد لكل نص ولو كان صريحا قرآنيا ، بل كما قال السيد قطب في ذلك :
يجب أن نستمد فكرنا من نصوص القرآن ، وأن ما يقرره نعتقده ونقول به .
وقد ناقشنا هاتين الفكرتين القديمة التي استبعدت ذلك كلية ، والحديثة التي أولتها .
ونضيف شيئا آخر في جانب الفكرة الثانية ، وهي لعل مما حدا بأصحابها إلى ذلك ما جاء عن قتادة قوله : إنه لم ير الجدري بأرض العرب مثل تلك السنة .
وقيل أيضا : لم ير شجر الحنظل ، إلا في ذلك التاريخ .
فيقال أيضا : إن العقل لا يستبعد هنا أن يكون إهلاك هذا الجيش الكبير بتلك [ ص: 107 ] الحجارة في مكان معسكره في بطن الوادي ، ووقوع الجثث مصابة بها ، لا يمنع أن تتعفن ثم يتولد منها مكروب الجدري ، ولا مانع من ذلك . والعلم عند الله تعالى .